تحقيق فاتن ابراهيم
وطنية - الشتاء دائما يخبىء في جعبته اجمل الذكريات ويسترجع صور من رحلوا وتركوا آثار بصماتهم تثير كل تساؤل في خواطرنا عند كل قصة وخاطرة، وأطياف ضحكاتهم ما زالت ترتسم على جدران الحلم، تستنهض المآقي التي ألفت الأيام الخوالي وليالي السمر والسهر حول أتون المناقل والمواقد والفوانيس التي تتراقص ألهبتها على صرير الأبواب وأصوات الرعد والبرق، والذئاب التي تتلوى من شدة الجوع وقسوة البرد. رحمك الله يا جدتي التي تماهت في كل حدث من هذه المشهديات، وكانت تروي للعائلة أحداث عن أحوال الطقس، جهلتها في طفولتي وأحببت أن أحييها مجددا.
أجداد يروون عن أجدادهم..
كان لنا لقاء مع فلاحين من القرى حدثونا عن أحوال الطقس على طرقهم البدائية ومقياس الأجداد القدماء، فيسردون لنا الحكاية ممزوجة مع كل ذكرى مع الحقل والبيدر "والطرشات". فتقص لنا ام أحمد رضى بقولها:" العواصف كلها مظاهر اعتيادية كما كل عام منذ زمن وإن بدأنا بفصل الربيع. لكن الفرق أنه منذ أيامنا كان الشتاء أكثر قساوة من حيث صقيعه وغزارة أمطاره، وتعقب بقولها بلهجة قروية:" كنا نحصد وندرس القمحات والبيدر يضل رطب لو بعز دين حزيران ".
وتخبرنا حكاية تقسيم الطقس حسب نظرياتهم القديمة، بقولها :"كنت اسمع اهلي يحكون عن أربعينية الشتاء (المربعانية) وتبدأ في الأول من كانون الأول وتنتهي أواخر كانون الثاني، وايضا خمسينية الشتاء وتبدأ في أول شباط وتنتهي في 22 آذار، وفي هذه المربعانيات يتأمل الفلاح بقدومها حيث يعلن بدء التباشير بموسم الشتاء كونها تعد البداية الحقيقية ولهذا الفصل وتبقى ثلاثة أشهر. وهذا يعني ان هذه الأيام أقسى انواع البرد. وأشارت أن ليلة بداية (المربعينية) أطول ليلة في السنة، وتكمل شرحها:" والأربعينية بحسب رأي أجدادي ثلاثة نجوم بأيام متساوية، الأول الإكليل كنت اسمعهم يستشهدون بمثل يقولونه " إذا طلع الإكليل هاجت الفحول وشمرت الذيول وانجرفت السيول"، والثاني القلب وفيه أطول ليلة وأقصر نهار في السنة "إذا طلع القلب امتنع العذب وصار أهل البوادي في كرب"، والثالث اسمه الشولة وهو آخر أيام المربعانية".
السعودات وخبرياتهم ...
وتضيف أم احمد :" سأخبركم عن الخمسينية اي في اقسى ظروف الشتاء حيث كان الفلاحون يقسمونها لأربعة أقسام، هي سعد الذابح وسعد السعود وسعد بلع وسعد الخبايا ولكل اسم فيه فترة زمنية في القرية كانت تشتد البرودة في سعد الذابح وتبدأ الخبايا بالظهور في سعد الخبايا وهكذا تبدأ الحرارة بالارتفاع".
وتخبرنا عن المربعينية قائلة: "هي الثلوج المتراكمة والصقيع الذي يحصد الشجر والبشر". وتسألنا لنجاوبها في أي فترة نحن الآن ؟ فترد هي على سؤالها: "طقسنا يمر الآن بفترة الخمسينية وتمتد هذه حوالى 12 يوما ، وقسمها الفلاحون بالسعود الأربعة". وأثارت ام احمد فضولنا لنعرف ماذا يعني السعود الأربعة، وهل هذه التسمية جزء من الطقس؟ أجابت: "هي رواية شاب يدعى سعد خرج للغزو فاشتدت العاصفة تترافق مع الامطار الغزيرة فظن أهل ضيعته أنه مات، ولكنه رجع إلى دياره سالما وأخبر أباه انه ذبح ناقته وتغذى منها واختبأ في كهف. لذا سميت المرحلة بسعد الذابح".
وتكمل: "الفترة الثانية هي سعد بلع، قال سعد أنه كان يبلع اي يأكل من لحم الناقة التي ذبحها، لذا يقول والدي أن الأرض في سعد بلع كل الشتاء المتساقط فلا يظهر بركا على سطح الأرض. وبعد سعد بلع قالوا سعد السعود، وفي نهاية الرواية أن سعد قد نجا وأن الدفء سيعم والحرارة سترتفع ولهذا يقولون "في سعد السعود يدور الدم في العود" أي تحرك الدم في شرايين سعد بعد أن كان متجمدا من البرد. والمثل صحيح حيث إنه في أواخر شباط تنتهي فترة سبات النبات وتتعذى من التربة. والخاتمة بسعد الخبايا إذ تخرج الحيوانات المختبئة من البرد كالأفاعي وغيرها، وفيه أيضا خرج سعد من مخبئه فسمي سعد الخبايا". وتستطرد بقولها متسائلة :" بتعرفو شو هني المستقرضات؟".
المستقرضات ما بين شباط وآذار..
الفلاح أبو نايف..
كان لنا لقاء مع الرجل الثمانيني أبو نايف وهو بقاعي الأصل يسكن في النبطية ، ويسرد لنا من خبرته في أحوال الطقس ويقول :" أنا رجل فلاح أضرب بمعولي الحقول وكنت خبيرا بكل فصل، وليت ايام الشباب والفلاحة تعود. ويسكت قليلا ويتذكر ويخبرنا عن الطقس في هذه الفترة: "هذه الأيام هي المستقرضات أي أنه خلال فترة سعد السعود ما يقارب 7 ايام، كما يقول المثل "خي يا آذار 3 مني و3 منك وبعدها الشتا منودع" .
وقال: "أغلب الأحيان كان الشتاء قاسيا مع فيضانات وهبوب رياح شديدة وبرد قارس. يعني المستقرضات تعوض نسبة المياه الناقصة". ويستشهد بمثل شعبي: "إذا تأخر المطر، عليك بالمستقرضات" أما القصة التي يصر على صحتها كما ينقل لنا :"وللمستقرضات قصة هي الأيام التي سماها العرب قديما أيام العجوز وهي: صن، وصنبر، ومطفي الجمر". وهي مصطلحات توحي بشدة البرد وغزارة المطر وهطول الثلوج.
ويستطرد العم أبو نايف:" كنت أسمع جدي يقول: هذه الأيام الأيام الباردة والقاسية مستقرضات الروم تدل اذا كانت السنة "كبيس"، وبحسب الرواية، شهر آذار كان يشتاق للقدوم بالدفء بعد أن ملت الناس من برودة وتقلبات شباط، فخاطب شهر شباط قائلا ( شباط يا إبن عمي ثلاثة منك وأربعة مني بنخلي دولاب العجوز يغني" (المقصود دولاب المغزل)، ويبدأ الطقس بالتحول إلى الدفء وقامت العجوز بالخروج من بيتها وجلست في" الحاكورة" (الحقل) ، تحت خيوط الشمس ، وبدأت بغزل الصوف مستمتعة بالدفء، وقالت بشماتة:" راح شباط ورمينا وراه المخباط = عصا طويلة، فسمعها شباط ، فغضب لهذه الإهانة أيضا واستنجد بإبن عمه آذار قائلا ( آذار يا إبن عمي، أربعة منك وثلاثة مني ، بنخلي العجوز تحرق دولابها والمغزلة) = روايات قروية. وكانت أيام سبعة شديدة المطر والبرد ، مما اضطر العجوز إلى أن تحرق كل ما عندها من حطب للتدفئة، حتى أنها أشعلت مغزلها طلبا للدفء. ولهذا كان المثل ( ما إلك طرش يقوم ، و لا مركب يعوم ، إلا بعد مستقرضات الروم ).
العجائز.. اسم آخر للمستقرضات
كما اتفق العم ابو نايف والسيدة ام احمد على أن "المستقرضات تسمى بأيام العجائز لأن بردها شديد يودي بحياة الكثير من كبار السن حيث لم تكن التدفئة متوفرة على ما هي عليه اليوم من المدافىء اللازمة، بالإضافة إلى انتشار الأوبئة والأمراض ولم يكن هناك علاج لها".
وقال العم ابو نايف :" كنا بعمر الستين نعمل بشكل شاق في الحقل رغم غزارة الثلوج ورداءة الرؤية على الطريق ونحضر العلف للماشية والمؤونة للبيت. وكان الرجل منا لا يشعر ان الطقس بهذا السوء وأجسادنا كالحديد".
ووصف رجال اليوم قائلا: "في هذه الآونة الرجل في الأربعين من عمره يكون ضعيفا ويتعرض للأمراض بسرعة من بعض البرد لأن عمله سهل ولا يحرك عضلاته او يمرن أنفاسه كما يفعل الفلاح في الحقل، هذا الجيل أدمن المكيف والكرسي".
ويختم في آخر عبارة له: "كان الطقس من قبل قاسيا لدرجة ان الحيوانات المفترسة تهجم على البيوت كالضباع والخنازير البرية، لكنها كانت ايام تتصف بالمحبة والعفوية والخير".
===============