تحقيق حلا ماضي
وطنية - رشحت أكاديمية العلوم الروسية، وهي واحدة من أعرق الأكاديميات العلمية في العالم، للمرة الثانية على التوالي الباحث اللبناني - الروسي البروفسور سهيل فرح لجائزة نوبل للسلام.
الباحث فرح عضو في الأكاديمية ودكتور في فلسفة العلوم والحضارات والأديان في الجامعة اللبنانية وجامعة موسكو. وقد رشحه للجائزة رئيس قسم أوروبا في الاكاديمية البروفسور الكسي غروميغو، مع الأكاديمي الروسي يوري يوغافيتس والأكاديمي الكسندر أغييف.
غروميغو يعتبر ان الاعمال التي يقوم بها الدكتور فرح مع زملاء آخرين له "لها قيمة معرفية كبرى وتستحق أن تكون حاضرة في المحافل العلمية وحتى السياسية الدولية، مشيرا الى ان فرح وزملاءه قد دشنوا حقل معرفة جديدا في علم الحضارات ( السيفوليوغرافيا)، الذي يضم مقاربات وأفكارا منهجية ومعرفية علمية جديدة حول مفهوم الحضارة وتاريخها وحاضرها ومستقبلها والحوار والشراكة بين الحضارات وايضا في علم البدائل الحضارية الذي يركز جهوده العلمية على ما أسموه بحضارة "النووسفيرا".
"الوكالة الوطنية للاعلام" التقت البروفسور فرح في المؤتمر الدولي عن الذكاء الاصطناعي الذي نظمه مركز الدراسات والبحوث في الجيش اللبناني من 26 الى 30 اذار الماضي، فقال، عن الجديد في حقل المعرفة الذي تم ترشيحه على أساسه: "يرتكز على مجموعة من المبادىء الأساسية. من الناحية المنهجية، إن رؤيتنا للحضارة رؤية تكاملية علمية تأخذ بعين الاعتبار المقاربة الفلسفية للحضارة، المقاربة التاريخية، المقاربة السوسيوثقافية والجيوبوليتيك، والمطلة أيضا على علم المستقبليات كوننا ندرس الحضارة الكوكبية - الإنسانية ككل".
وأشار فرح الى انه يرتكز مع زملائه في الاكاديمية على "نهج معرفي، ملخصه ان الحضارة على هذا الكوكب مرت بأربعة أجيال من الحضارات، وكل جيل يعيش حركة دورانية حضارية معينة. علما بأن المرحلة التي تعيشها الحضارة الانسانية المعاصرة تمر بمجموعة من الأزمات لعل اهمها الأزمة الإيكولوجية بمعنى مشكلة الإنسان مع الماء، الهواء، البيئة عموما، فعندما بدأ العقل العلموي يقتحم عالم الطبيعة غاب التناغم بين الانسان وأمه الطبيعة".
وقال: "لمكونات كل ظاهرة في الوجود بما في ذلك السياسية أو العلمية او الدينية هناك طاقتان، الاولى بناءة والثانية مدمرة. في الطاقة العلمية، لا يوجد تقدم بدون عقل علمي. واذا غابت القيم الأخلاقية عن العلم يصبح مدمرا ويدخل في المنطقة المظلمة والمدمرة في الشخصية الإنسانية.
واضاف: "نحن نشهد نهاية جيل رابع لدورة حضارية كوكبية، وما نراه اليوم أمامنا يشير إلى أن الكوكب في مأزق، لا بل مآزق عضوية في كل المجالات، وتجسيداتها ليست ظاهرة للعيان فقط في لبنان او الشرق الاوسط. الحضارة الإنسانية كلها تعيش أزمة ايكولوجية، أزمة ديموغرافية إذ يوجد انفجار سكاني في المواقع الفقيرة، ونمو سكاني في المناطق الغنية، والعرق الأبيض على عتبة ان ينقرض نظرا لوجود مشاكل في مناطقهم لاسباب عديدة منها ندرة وجود الأسرة، لا يوجد ولادات، تشريع الزواج المثلي، ناهيك عن الأزمات المستعصية في مجالات المال، الاقتصاد، الاجتماع والطاقة وكذلك هناك أزمة قيم إنسانية كبيرة جدا".
وأعلن "ان نظريتنا، التي تم ترشيحنا على أساسها لجائزة نوبل للسلام، من قبل علماء روس وايضا من قبل اكاديميين فرنسيين وألمان وأميركيين، تشير إلى أننا ندشن حقلا علميا معرفيا جديدا بعلم الحضارات، يدعو الى حضارة من نوع جديد، حضارة النووسفيرا، تسود فيها حكمة العقل العلمي والعدالة وتمثل القيم الانسانية والسماوية المشتركة... وقد تصل البشرية الى ذلك بعد الخروج من مآزقها العضوية الحالية الى حالة بديلة، ستظهر بداية معالمها بدءا من بداية خمسينات هذا القرن".
وقال: "لقد علمتنا فلسفة التاريخ بأن الحلول تولد من بطن الأزمات والمشاكل، مثلما يأتي السلام بعد الحروب، لذلك نحن نعمل على تفعيل حراك الشراكة بين الحضارات والأديان والمعارف المتنوعة، نظرا لوجود صراعات هائلة بينهم. ونسعى لفضح دائم للعقيدة الداروينية- الاجتماعية المسيطرة على عقل من بيده القوة والمال والسلطة والمعرفة في الغرب والشرق معا... كما اننا نبين محدودية لا بل مخاطر كل عقيدة توتاليتارية بما فيها، لا بل، حصرا العقيدة الدوغماتية الدينية التي تعتقد بأنها تملك الحقيقة المطلقة، فكيف ذلك ونحن نعيش في عالم متنور مفتوحة عقوله على بعضها البعض".
وعن تحكم الدوغما الدينية او الحزبية او الأيديولوجية او العسكرتارية بالمجتمعات، قال البروفسور فرح: "على العكس تماما، من يتحكم بهؤلاء جميعا هي الطاقة المدمرة، حتى في الدين نفسه. علما أنه توجد طاقة غاية في السمو والنور هي الطاقة الروحية، وبالتالي لا خلاف على المبدأ الذي يقول بأن البعد الروحي المتسامي النقي للاديان يتفق الجميع عليه، وكذلك توجد قيم إنسانية ممكن الاتفاق عليها، إلا انه في أي مؤسسة دينية يوجد دائما "حراس العقائد والحقائق المطلقة"، الذين يعملون المستحيل من أجل الحفاظ على المؤثرات السلبية في الذاكرة التاريخية، فكل دين عنده ذاكرة تاريخية قديمة مثخنة بموروث النزاعات والحروب، وهذا ما يجب علينا الغاؤه حتى نجد لغة انسانية روحانية مشتركة مع الآخر، ونستطيع ان نكون متدينين او روحانيين أو إنسانيين، ولا نلتزم حرفيا بما يمليه علينا حراس المؤسسات الدينية فهم بشر مثلنا".
وأكد "ان عالم تصوراتنا للانسان والوجود ليست محصورة بتصور واحد موحد"، وقال: "هناك ثلاثة أنواع من التصورات لعلاقة الإنسان بنفسه وعلاقته مع اخيه الإنسان ومع الطبيعة والكون: التصور الفلسفي، التصور الديني، التصور العلمي، واذا وجدت مقاربة انثروبيولوجية فلسفية للانسان من قبل رجل الدين المتنور والعالم الواسع الأفق والفيلسوف المنفتح على البعد الديني والروحي، فانهم لا محالة يفتشون عن المناطق المضيئة، فلا بد من ان يجدوا لغة مشتركة... لأنه لدى كل حضارة وثقافة وفي كل دين توجد منطقة مضيئة وجذابة، ويمكنها التفاعل الخلاق مع غيرها من المناطق البناءة والمشرقة عند الاخر أيا كان دينه او ثقافته او خياره الاقتصادي والاكسيولوجي".
ويقول الباحث فرح الحائز على جائزة يفغيني بريماكوف لعام 2018 عن كتابه "الحضارة الروسية- المعنى و المصير"، "لدوره الملحوظ عبر الفكر والعمل، في عدد من الاماكن التي تشكل ملتقى مكثفا لتناطح الحضارات والتقارب بين ثقافات وأديان الشعوب": "اننا نعمل في المنطقة المضيئة ونحاول ان نقدم علم بدائل جديدا حتى لا نبقى أسرى الذاكرة التاريخية المريضة المليئة بالحروب والانفعالات الغضبية".
وتساءل: "الى متى سيبقى الصراع بين الأديان، بين الاسلام والغرب وعموما بين الشرق والغرب، وهل سيبقى الصراع شاملا بين منظومة القيم الليبرالية ومنظومة القيم العلمانية من جهة والدينية من جهة أخرى، وهل سنبقى أسرى العقلية الداروينية التي تقول بأن الأقوى هو من يملي شروطه على الآخر ام علينا الانتقال الى مرحلة انفتاحية عقلانية أرقى بالعلاقات الإنسانية؟.
وشدد على "ضرورة تجديد الفكر الديني عن طريق إدخال الطاقة الإيجابية التصورية للعلم على الدين وإبعاد حضور ما يسمى بالمقدسات في وعي المؤمنين وإبعاد الدين عن الحروب"، وقال: "نحن نحاول ان نقول بأن هذه الكرة الأرضية حبلى بالازمات، وما نراه هو أن الحروب تزيد المشاكل الإيكولوجية والأزمة الديموغرافية والهجرة من الشمال الى الجنوب. في كل الحالات نعيش اليوم زمن الانهيارات الاكسيولوجية، فالاستبداد بالشعوب الشرقية يتزايد، ومنظومة القيم الغربية تترهل، ومنظومة القيم الدينية تشيخ".
وأعلن "اننا مع النظرية التي تقول بوجود 12 "بلوك" حضاريا على هذا الكوكب، وكل بلوك عليه ان يفعل وينشط الطاقات الاكثر حكمة ووعيا ورؤية مستقبلية واستراتيجية بعيدة البصيرة والمدى في دواخل وعيه وسلوكه من أجل تجديد الطاقة الثقافية والروحية والاقتصادية لكل شعوب هذا الكوكب.
البروفسور سهيل فرح الذي اختير عام 2011 شخصية العام في ميدان العلوم في روسيا، وفي نفس العام قلده آنذاك الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف في الكرملين وسام بوشكين للصداقة بين الشعوب، يتركز عمله الدؤوب على "فكرة الحوار والشراكة"، ويتذكر اطروحته التي دافع عنها عن "المقارنة الفلسفية بين العقلية الغربية والشرقية، ودراساته الانثروبولوجية بين الشرق والغرب"، ليستنتج أنه وجد بأن هناك مساحة واسعة من القواسم المشتركة بين كل سكان الكوكب"، مؤكدا ان "من يعملون على تغذية فكرة "المركزية الأوروبية" و "المركزية الغربية" و"الأخرى الآسيوية والإسلامية"، هم من دعاة الانكفاء على حضارة او ثقافة إيديولوجية معينة، والناس التي تنظر للمركزية والتمركز نحو الذات هم الذين لا يريدون ايجاد لغة مشتركة مع الآخر".
وعن عملية ترشيحه للمرة الاولى لجائزة نوبل في العام الفائت، حيا البروفسور فرح وزير التربية والتعليم العالي السابق مروان حمادة على "لفتته الرائعة العام الماضي، عندما أرسل توصية الى لجنة نوبل للسلام بحقه، وذلك قبيل انتهاء المدة المحددة لقبول التوصيات. وكذلك فعل رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد ايوب، علما أن اللجنة المذكورة لا تحبذ ابدا تدخل السياسة والسياسيين فيها".
وعن الظاهرة اللبنانية المتموضعة محليا واقليميا وحتى دوليا، اعتبر فرح انه "رغم الخلافات والازمات التي يعاني منها لبنان داخليا، وهي بلا شك مقلقة جدا، الا ان اللبنانيين يتصرفون بطريقة راقية ومسؤولة امام القضايا الكبرى"، مشيرا الى "رسالة لبنان المميزة، انطلاقا من خطاب السياسين العقلاء ونخبة من المثقفين والأكاديمين المرموقين في لبنان وخصوصا دعوة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون امام هيئة الامم المتحدة الى ان يكون لبنان مركزا للحوار بين الأديان و الحضارات"، داعيا هذه النخب السياسية وممثلي المجتمع المدني الى "تحقيق فكرة تحويل لبنان الى ملتقى ديناميكي دائم للحوار والتعاون بين الشرق والغرب، من خلال الطاقات العلمية و الثقافية اللبنانية التي أثبتت حضورها في المؤسسات الدولية".
========= ن.م