تحقيق منى سكرية
وطنية - شهد المؤتمر الوطني "الصحة النفسية والأمن الاجتماعي: من العيادة إلى حراك المنظمات غير الحكومية"، الذي انعقد في فندق موفمبيك، حضورا نسائيا لافتا، وذكوريا بنسبة أقل. هذا الحشد لم نشهده كثيرا في مناسبات أخرى، ما يحمل دليلا شبه قاطع على أهمية الموضوع، لما يتضمنه من مخاطر وتأثير مباشر على سلوكياتنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا مع الآخرين من حولنا، وتاليا بأمننا النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
وبالنظر إلى أهمية الموضوع ومترتبات نتائجه سلبا وإيجابا على مجتمعاتنا، كان للمؤتمر المذكور أبعاده الجديدة على صعيد الربط ما بين العيادة كمساحة لعلاج الأمراض والعوارض النفسية للمصابين ، وما بين عدد من منظمات المجتمع المدني بسبب حضورهم الميداني والتواصلي مع شرائح واسعة من المجتمع لا سيما من المهمشين كما تصفهم هذه الجمعيات كالنساء والأطفال.
وتوضيحا منه لأهمية المؤتمر وضرورات تكرار متابعته، أكد مدير برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة الدكتور ربيع الشماعي ل "الوكالة الوطنية للاعلام" أن "كل شخص من أصل أربعة، يعانون اضطرابات نفسية خلال مسيرة حياتهم"، مؤكدا "اتساع ظاهرة الاضطرابات النفسية على الصعيد العالمي"، معددا "أسبابا كثيرة أبرزها ضخامة الأحداث المحيطة بنا والمنعكسة علينا في آن، وأيضا في تقلبات الأوضاع الإقتصادية وما ينجم عنها من بطالة وعدم شعور بالأمان النفسي لجهة عدم استقرارها"، متوقفا في الوقت عينه أمام "ضعف إجراءات الحماية والعلاج، بقوله إن كل 9 أشخاص من 10 يعانون هذه الاضطرابات لا تصلهم الرعاية، ولأن تكاليف العلاج تتخطى التريليون دولار في العالم، في حين يقدم شخص في كل 40 ثانية على محاولة الانتحار".
أما في لبنان، فأوضح أن "نسبة 3,4% من الموازنة تذهب إلى الصحة النفسية وهذا يوازي موازنات الدول المتطورة، لكن ما زالت نسبته قليلة، متوقعا وصول نسبة مرضى الاكتئاب في لبنان العام 2030 إلى المرتبة الأولى بين الاضطرابات النفسية، الأمر الذي دفع بالوزارة وبرنامجها الوطني للصحة النفسية إلى وضع خطة استراتيجية تهدف إلى تخفيض عدد حالات الانتحار، وزيادة نسبة الخدمات لتقليل عدد المدمنين على الكحول، وفي التنسيق مع الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسيف لإدارة خطة إستجابة لبنان لانعكاسات النزوح السوري، لأن هناك جمعيات أجنبية قامت بتجارب على النازحين السوريين وادعت أنها قامت بالمهمة بإسم لبنان، لكننا استطعنا منعها من إتمام مهامها، بالاضافة إلى إصدار الوزارة وثائق تحدد أنواع الأدوية المرتبطة بالقرائن العلمية في عملية توزيعها، وكذلك في تحديد النقاط التي على أساسها سيتم توظيف المعالج النفسي أو الطبيب النفسي، وكذلك في إصدار مجموعة مؤشرات تجاه عمل الجمعيات، وحاليا نعمل على مراجعة القوانين وإدخال شركاء جدد مثل الجامعات على سبيل المثال، وذلك من ضمن العمل على احترام حقوق الانسان وأخلاقيات المهنة".
تغيرات كثيرة طرأت على علم النفس بسبب تطور العلوم العصبية والبروتوكولات الخاصة بالعلاج النفسي نظرا للتغيرات التي تطرأ على المجتمعات، وهو ما استدعى تعدد الحاجيات في العلاج، ولأن الاكتئاب بات المرض الثاني عالميا بعد أمراض القلب، كما ذكر الدكتور كمال الرضاوي الأستاذ في كلية الطب النفسي في جامعة الرباط، ولأنه وفقا لتقارير منظمة الصحة العالمية فإن 90% من بلدان العالم ليس لديها سياسات في رعاية الاشخاص الذين يعانون هذه الاضطرابات وفي صعوبة الوصول لمواجهة هؤلاء، مما يستدعي الكثير من المبادرات، ولأن 30% من هؤلاء لا قدرة لديهم على شراء الأدوية الملائمة.
هذه المبادرات تقتضيها تسارع الظواهر الاجتماعية والعنف الملازم لها، كالتحرش بالاطفال، والاتجار بهم، والعنف ضد الأفراد خاصة في الحروب، وارتفاع معدلات البطالة، والفقر، والتمييز الاجتماعي، والعبودية في قطاعات العمل، وإلا كيف لنا أن نفسر ارتفاع نسبة المنتحرين في بلدان تتمتع بالرفاهية العالية كالدول الاسكندنافية وبعض دول اوروبية، وغيرها من البلدان الفقيرة التي تعاني الفقر أو الاحتلال أو نهب ثروات شعوبها.
مواضيع متنوعة وضعتها منظمة "أبعاد" ومركز "تبيين" وبالتعاون مع وزارة الصحة وسفارة هولنده في لبنان على جدول أعمال المؤتمر المشار إليه، وحظيت بحيوية لافتة لجهة مشاركة الحضور بالنقاش وطرح الأسئلة، كما لجهة سجالية المواضيع قيد النقاش، فتراوحت ما بين تقييم مستجدات الصحة النفسية وسبل دعمها وخطورة انتشارها محليا وعالميا، إلى تجارب عرضتها بعض جمعيات لبنانية أهلية معنية بالأمن الاجتماعي لجهة متابعتها للحالات النفسية والاجتماعية، مع أن المتحدثات عن تجاربهن في المؤتمر لم يعرضن لحالات واجهنها، كما لم يذكرن نسبا مئوية حول الأمراض النفسية التي عملن على متابعتها أو معالجتها، في حين أن تجارب ممثلي الهيئات الدولية كانت أكثر غنا، فذكرت سارة شماطي عن الصليب الأحمر الدولي أن العنف في النزاعات والحروب هو نفسي وليس جسديا فقط، في حين عددت ليليان يونس من مؤسسة بيت أطفال الصمود عن حالات الاضطرابات النفسية في المخيمات الفلسطينية في لبنان وأبرزها: الاضطرابات السلوكية، والتسرب المدرسي، ومرض التوحد، والاكتئاب، ولفتت روز حبشي ضاهر إلى النقص في عدد محترفي العلاج النفسي في المناطق اللبنانية.
وكان لحصة المناقشة القانونية الإنصات الأكبر لدى الحضور، لا سيما وأن القاضيتان هلا نجا ورنا العاكوم دخلتا مباشرة إلى صلب الموضوع، فعرضتا لتعديلات بعض المواد القانونية بما يخص العنف الأسري، وأشارت نجا إلى غياب الدراسات النفسية من اخصائيين لدعم قراراتها مما يدفعها إلى اللجوء إلى إصدار أحكامها بناء على أدلة وقرائن التقري الطبي والشهود، مؤكدة أن القانون يتم تطبيقه كاملا ولكن هذا لم يمنع حصول جرائم القتل، مشددة على ضرورة تعيين أخصائي نفسي يعمل مع المحكمة ويواكب الضحية والمشكو منه.
أما العاكوم فسألت الحضور عن اختيارهم ما بين اللجوء إلى القانون للاقتصاص من المشكو منه في جرائم الاغتصاب، أو التحرش المنافي للحشمة ولخدش الحياء، أو القبول بالستر، فكانت صرخات كثيرات من الحضور باختيار القصاص والعقاب، مع الإشارة هنا إلى ما قالته القاضية العاكوم أنه بموجب القانون المعدل صار يشمل حماية الضحايا من النساء ومن الذكور لأن جريمة الاغتصاب تطال أحيانا ذكورا قاصرين.
في هذا المجال، كانت المحاضرة الأوسع والأعمق للدكتور الأخصائي في علم النفس ورئيس مركز "تبيين" الدكتور عباس مكي حول الاكتئاب، والانطوائية عند الطفل، واصفا هذه الحالة بأنها انتحار بطيء، لأن الكبت أحدد أسبابها، مشددا على أن علاجها يكمن في إعادة تأهيل الأهل، منوها بعمل الجمعيات المدنية المشاركة وغيرها من الجمعيات لأنها- كما وصفها، جسر للربط بين الواقع الاجتماعي وعمل الاطباء النفسيين، ولأن عملها هو لمعرفة احتياجات الناس وتقديم الخدمة لهم وليس فقط الاستماع، فالاضطرابات النفسية ناتجة عن تدمير المؤسسات التي لا توفر الأمان للإنسان فينتج عنها العنف ومنه إلى الجريمة، في حين أن البطالة تؤدي إلى نبذ وإقصاء على الصعيد الاجتماعي، ما يؤدي إلى تداعيات مثل تراجع الثقة بالذات، الإجهاد، العزلة والتقوقع على الذات.
=========== ج.س