تحقيق علي بدر الدين
وطنية - "التنجيد العربي" من المهن اليدوية القديمة في لبنان عموما والجنوب خصوصا، شهدت هذه المهنة عصرا ذهبيا في مطلع الستينات وظلت كذلك حتى بداية الأحداث اللبنانية التي انعكست سلبا على هذه المهنة الشعبية وتضاءل عدد العاملين فيها. وزاد في تراجعها ظهور صناعة المفروشات الحديثة وتطورها وسهولة الحصول عليها رغم الكلفة المادية الكبيرة التي تفوق بكثير اعادة تأهيل الفرش والألحفة أو حتى شرائها مع لوازمها.
اشتهرت مهنة التنجيد العربي في سوق المنجدين في قلب العاصمة بيروت وتحديدا في ساحة رياض الصلح حيث كانت يعتبر هذا السوق من اهم الأسواق الحرفية الصناعات اليدوية في لبنان، وفيه كان يحتشد الناس من كل الطبقات الإجتماعية لإختيار ما يناسبهم من فرش وألحفة ووسادات أو لإعادة تأهيلها، لأن وجود هذه المفروشات الشعبية ضرورة لا بد منها ولا غنى عنها لدى شرائح المجتمع كافة.
قوافل المنجدين
من هذا السوق انطلقت قوافل المنجدين الى كل المناطق اللبنانية وخصوصا الجنوب بمدنه وقراه بعد ان اكتسبوا الخبرة التي تساعدهم في تأمين معيشتهم. سوق المنجدين كان مقلعا حقيقيا لكل من اراد تعلم المهنة، لكن هذا السوق الذي كان يضم الالاف من اللبنانين على اختلاف مناطقهم وطوائفهم دمرته الحرب اللبنانية وشردت العاملين فيه وقضت على معالمه التاريخية.
وبنتيجة هذا التهجير القسري والعودة الطوعية، شهدت مدينة النبطية والعديد من قراها وجودا فعليا لمعلمي التنجيد، إما عبر افتتاح محلات لهم أو خلال التجوال في شوارع المدن والقرى حاملين عدته المتواضعة على الاكتاف والمناداة بصوت عال لإبلاغ ربات البيوت بوجودهم في الحي.
سرق هذا العمل الشاق من المنجدين، مع ظهور صناعة المفروشات الحديثة التي تعتمد على الإسفنج والقماش وكذلك من قبل العمالة الأجنبية التي دخلت في منافسة قوية مع المنجدين المحليين وأخذت من طريقهم فرص العمل وهي تتنقل بين القرى والأحياء وتقدم خدماتها بأجر أقل.
تضاءلت فرص عمل المنجدين الذين لم يبق لديهم من زبائن سوى الفقراء الذين يتريثون كثيرا قبل الإقدام على تجديد فرشهم او تنجيده، أصاب المهنة بالشلل وهي في طريقها الى التلاشي نهائيا.
يقول المنجد يوسف كامل بدران: "ان عدد المنجدين في قرى قضاء النبطية لا يتجاوز أصابع اليد. وفي هذه الأيام، فان من يبحث عن "منجد عربي" كأنه يبحث عن "إبرة في كومة قش"، لقلة عددهم ولكون هذه المهنة بدأت تندثر عكس المهن والحرف اليدوية الأخرى التي يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد".
وقال: "بدأت العمل في هذه المهنة عام 1958 وكان عمري آنذاك 16 عاما. بدايتي كانت في سوق المنجدين في بيروت، واثناء الحرب انتقلت الى منطقة الشياح ومن ثم عدت الى بلدتي الشرقية وافتتحت محلا للتنجيد في بلدة الدوير بعد أن بعت أرضا ورثتها عن والدي".
واضاف بدران: "العمل في هذه المهنة لم يعد مفيدا ولا منتجا، لكننا نضطر للاستمرار بها لاننا لا نتقن عملا آخر. والقليل خير من الحرمان، وكي لا نمد أيدينا لأحد.
واكد ان هذه المهنة في طريقها الى الإندثار، وقال: "معامل المفروشات الحديثة سرقت الأضواء بالدعايات والإعلانات والمنافسات، اما التنجيد العربي فإن كثيرا من الأجيال الطالعة لا تعرف عنه شيئا ولا عن مكانته الإجتماعية في حياة الناس وخصوصا لدى أبناء الريف اللبناني".
واوضح ان الصعوبة في مهنة التنجيد أنها تحتاج الى القوة والصبر في العمل، لكنها تسبب الكثير من الأمراض والأوجاع في الظهر والركبتين والرئتين بسبب الغبار الكثيف الذي يتصاعد من القطن أو الصوف عند ندفه وضربه بقضيب من الفولاذ وهذا ما ادى الى اصابة العشرات من المنجدين بأمراض الربو والرئة والقلب، ما اضطرهم الى ترك هذه المهنة".
وقال: "معاناة المنجد انه يواجه قدره وأمراضه بنفسه، فهو يفتقد الى الضمان الصحي والاجتماعي والى نقابة تطالب بحقوقه كإنسان ومنتج. فنهاية المنجدين صعبة ومزرية خصوصا اذا لم يجد من يعيله ويساعده في أواخر ايام حياته".
سلعة تراثية
يبقى القول، أن المنجد يشكل حالة انسانية لجهة حفاظه على تراث شعبي بعمله الذي يتمثل بتجديد المفروشات الشعبية المكونة من القطن او الصوف التي لا تزال لها مكانتها في حياة الفلاحين وابناء الريف، والكثير من الأسر والعائلات يتوارثونها أبا عن جد، وهي في حالات كثيرة تكتب في وصية المتوفي وتخصص لهذا الولد أو ذاك وتحتسب كبقية الممتلكات، ولا يزال الكثير من المواطنين يحتفظون بها في منازلهم كسلعة تراثية لها مدلولاتها ورمزيتها العائلية، في حين ان البعض لا يعرف النوم والراحة سوى عليها رغم تطور المفروشات الحديثة".
يذكر ان الأدوات المستعملة في التنجيد العربي هي: النداف، الوتر، قضيب من الفولاذ، المدقة، الشمع، الخيط، الإبرة والكشتبان.
========== ن.م