تحقيق لينا غانم
وطنية - قد يذكر عدد من اللبنانيين مشهد آخر اعدام "علني" نفذ في حزيران من العام 1998 في الساحة العامة في طبرجا - قضاء كسروان، ففي ذلك اليوم علقت المشانق ونفذ الحكم في حق وسام عيسى النبهان (26 عاما - لبناني) وحسين ابو جبل (25 عاما - جنسية قيد الدرس) لاقدامهما على قتل شربل سقيم وشقيقته ماري العم في منزلها في طبرجا في العام 1995 بدافع السرقة، ومن يملك ذاكرة قوية فهو سيستعيد مشهد انهيار المحكوم ابو جبل لحظة صعوده الى منصة الاعدام ما دفع بعناصر قوى الامن الى مساعدته على الوقوف، وسيتذكر حتما اليافطات السود التي رفعت في الساحة من قبل بضع عشرات من ناشطي جمعيات الدفاع عن حقوق الانسان والتي تستنكر تنفيذ العقوبة. اذا كانت ذاكرة اللبنانيين تحتاج الى "تنقية" من رواسب سنوات الحرب الصعبة والمريرة وما تلاها، فمن المؤكد ان منظومة القوانين اللبنانية المتعلقة بقانون العقوبات هي ايضا بحاجة الى تعديل وتحديث، لتواكب تطور المعايير الدولية التي ترسخ مبادىء العدالة وحقوق الانسان، ففي بلد تحكمه مفاهيم العشائرية والطائفية، ظاهره حضاري وديموقراطي وواقعه عكس ذلك، تتحول المطالبة بتنفيذ عقوبة الاعدام بعد كل جريمة الى ملف جدلي واسع ومتشعب تنتج عنه مواقف معارضة تؤمن ان الاعدام عقوبة في منتهى القسوة واللاانسانية وهي لا تردع الجريمة، ومواقف مؤيدة تعتبر أن ردة فعل الرأي العام العفوية ودعوته إلى تنفيذ هذه العقوبة أمر طبيعي، إذ أن المجتمع اللبناني يعود تلقائيا الى جذوره العشائرية، يضاف اليها غياب "هيبة" الدولة ومفهومها وحتى الثقة بها. آخر اعدام "سري"، نفذ داخل سجن رومية في 17 كانون الاول 2004 بحق احمد منصور (شنقا) وبديع حمادة وريمي انطوان زعتر (بالرصاص)، ومنذ ذلك الحين ينتهج لبنان نظام Moratorium الذي يقضي بالالتزام طوعيا بعدم تنفيذ احكام الاعدام الصادرة والتي لا تزال تصدر وتم تجميدها، علما ان انفاذ هذه العقوبة يحتاج الى مرسوم موقع من وزير العدل ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، الذي منحه الدستور وحده سلطة النظر في موضوع العفو المتعلق بتقديره الإداري. يشار الى ان العهود المتعاقبة لرؤساء الجمهوريات منذ الاستقلال شهدت نسبا متفاوتة في تنفيذ عقوبة الاعدام، ففي حين لم تسجل عهود الرؤساء شارل حلو والياس سركيس وميشال سليمان اي انفاذ لهذه العقوبة، سجل في عهد الرئيس بشارة الخوري اعلى نسبة بلغت 21 عقوبة اعدام يليها عهد الرئيس الياس الهراوي مع 14 عقوبة ويومها اعلن الرئيس نفسه ان "عهد المشانق بدأ". نجار: للمضي نحوالغائها يرفض وزير العدل الاسبق وعضو الهيئة الدولية التابعة للامم المتحدة لمكافحة الاعدام ابراهيم نجار مبدأ تطبيق عقوبة الاعدام وهو مع المضي نحو الغائها، وقال: "عندما كنت وزيرا للعدل رفضت التوقيع على مراسيم تنفيذ عقوبة اعدام وفضلت حينها الاستعاضة عن هذه العقوبة بحكم السجن المؤبد"، معتبرا "ان الرادع ليس تطبيق قانون الاعدام انما تفعيل هيبة الدولة في كل زوايا الفلتان، لان نسبة الجريمة ترتفع بسبب عدم وجود رادع للمجرمين لغياب هذه الهيبة". الوزير السابق نجار الذي ينشط ضمن هيئة تضم شخصيات دولية عاملة في مجال تعزيز حقوق الانسان، والذي استحق وسام الشرف برتبة كومندور من الدولة الاسبانية لسعيه الدؤوب لالغاء هذه العقوبات في اطار عمله ضمن هذه الهيئة، يشير الى اتساع الحركة الدولية الهادفة الى الغاء عقوبة الاعدام وان المجتمع الدولي يسير قدما نحو الغاء الاعدام في القانون والممارسة، مطالبا القضاء بتسريع المحاكمات مع الحاجة الملحة لانسنة القوانين. وكان نجار قد تقدم بمشروع قانون في تشرين الاول 2008 تضمن خمس مواد شددت على تعديل المادة 37 من قانون العقوبات تتدرج من الاعتقال الموقت الى الاشغال الشاقة المؤبدة، على ان تلغى المادة 43 من قانون العقوبات والمواد 420 و422 و423 و424 من قانون أصول المحاكمات الجزائية. لكن هذا المشروع لم يدرج على جدول اعمال اي من الحكومات المتعاقبة. عيد مع تفعيل عقوبة الاعدام على خلاف رأي الوزير نجار، يؤيد الباحث القانوني والاجتماعي المحامي الدكتور ميشال عيد اعادة تفعيل عقوبة الاعدام لكن مع اعطائها ضوابط مشددة، مثل ربطها بجرائم محددة ومنها القتل الجماعي والقتل المتكرر (قتل اكثر من شخص) مع اثبات ارتكاب الجريمة عن سابق تصور وتصميم، لكن في كل الاحوال تحتاج الامور الى منحى انساني مع مراعاة منظومة "الامن الاجتماعي". يشرح عيد الفرق بين القتل العمدي اي عن عمد والقتل القصدي اي عن قصد، ففي الحالة الاولى يخطط المجرم عن سابق تصور وتصميم لعملية القتل ويهيء لها كل اساليب النجاح بدم بارد. اما في الحالة الثانية فتحصل الجريمة في ظرف معين عن سابق تصور وتصميم، لكن من دون تخطيط مسبق، وهي الحالة التي تنطبق على جريمتي قتل روي حاموش وقبله جورج الريف، خصوصا أن القاتلين في كلا الحالتين تعقبا الضحيتين من مكان الى آخر على مسافة كانت كافية لضبط النفس والوعي والتراجع عن ارتكاب الجريمتين. ماغي سعد: خوف مجتمعي وتعتبر الاستاذة المحاضرة في كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتورة ماغي سعد، ان تنفيذ عقوبة الاعدام قد يولد الخوف المجتمعي لكنه رادع آني، خصوصا وان الخوف تنتج عنه النقمة ولا يعالج المشكلة، وبالتالي علينا الذهاب الى ابعاد اخرى منها النفسية والاجتماعية والمعيشية والاقتصادية". وقالت: "الجريمة آفة لها مسبباتها، من هنا العودة الى جذور المشكلة للمعالجة مع آثار موجودة في اللاوعي العام، اذ اننا نعيش في مجتمع يطبق الهرمية الناشئة من العشائرية والطائفية ويلتزم بمفهوم العصبية وغيرها من المظاهر، وان في بعض المناطق، مثل الاخذ بالثأر للتعويض عن الضرر اللاحق، الامر الذي يجعل القتل في حالات معينة، كجرائم الشرف، أمرا غير مرفوض او حتى يجعل من هذه الحالات سببا مخففا لها". واشارت سعد الى "ان المفهوم العام في لبنان يتقبل معادلة العنف بالعنف، لان ثقافة الثأر ما زالت سائدة مقابل ثقافة التسامح التي هي وليدة راحة نفسية لا يمتلكها معظم الشعب اللبناني لظروف مختلفة، من هنا فان الاعمال الجرمية والقتل غالبا ما تأتي نتيجة انعدام الرؤية الواضحة وتدني مستوى المعرفة والثقافة، لذلك يجب العمل بشكل جدي على مسألة التنمية الاجتماعية والتربوية". نجيم: استشهاد بالوصايا العشر اما الكنيسة الكاثوليكية فتتميز بموقفها المبدئي المناهض لعقوبة الاعدام، ويستند هذا الموقف الى اعتبار ان الانسان مكون على صورة الله ومثاله، بهذه العبارة يلخص راعي ابرشية صربا المارونية السابق المطران غي بولس نجيم موقف الكنيسة من الاعدام، مشيرا الى تحول جذري لهذا الموقف عبر التاريخ اذ ان الاسباب التي كانت تجعل الكنيسة تقبلها أضحت اليوم في حكم الملغاة، الامر الذي أكدته رسالة "انجيل الحياة" للبابا القديس مار يوحنا بولس الثاني في العالم 1995. يستشهد المطران نجيم بالفقرة 2267 المدرجة في اطار الوصايا العشر الواردة في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية التي تضم في عضويتها نحو 1,2 مليار شخص، هذه المادة تنص حرفيا على "أن تعليم الكنيسة التقليدي لا يقصي اللجوء الى عقوبة الموت، متى تحددت تماما هوية المذنب ومسؤوليته، وكانت عقوبة الاعدام الوسيلة الوحيدة لحماية الحياة البشرية حماية فعالة من أذى المعتدي الظالم، ولكن ان كانت ثمة وسائل غير دموية كافية لردع المعتدي وحماية امن الاشخاص، فعلى السلطة ان تتمسك بهذه الوسائل لانها تتناسب بوجه افضل مع اوضاع الخير العام الواقعية، وتترافق اكثر فأكثر مع كرامة الانسان، ففي ايامنا وبفضل القدرات التي تملكها الدولة لقمع الاجرام قمعا فعالا تجعل مرتكبه عاجزا عن الاساءة ومن دون ان تنزع منه نهائيا امكانية التوبة، فان حالات الضرورة المطلقة لازالة المذنب هي من الان وصاعدا نادرة جدا ان لم نقل لا وجود لها البتة في الواقع". ويشير نجيم الى التماهي بين وصايا البابا يوحنا بولس الثاني وموقف البابا الحالي فرنسيس الذي دعا الى الغاء عقوبة الاعدام، قائلا: "وصية لا تقتل، مطلقة وصالحة تماما للابرياء والمذنبين". الاروادي: القصاص واجب واذا كانت الكنيسة تناهض عقوبة الاعدام بدءا من رأس الهرم في الكنيسة الكاثوليكية، لا سيما أن البابا فرنسيس دان تطبيق هذه العقوبة بلهجة حازمة، فما هو موقف الدين الاسلامي من هذه العقوبة؟ بحسب مدير عام الاوقاف الاسلامية في دار الافتاء الشيخ الدكتور محمد انيس الاروادي فان الآية القرآنية، "ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب لعلكم تتقون" (179-سورة البقرة)، تلخص موقف الاسلام من عقوبة الاعدام التي وردت في الكتاب وفي السنة. من هنا فان القصاص واجب اذا لم يقبل ولي الدم بالفدية (الدية) في حال القتل العمد، اما في حال القتل بالخطأ فتدفع الفدية وبالتالي فان القصاص مكتوب على القاتل. وعندما نقول في "القصاص حياة" فالمقصود ان الحق يشرع القصاص كأنه يقول، اياك ان تقتل احدا كي لا تقتل، ولان القانون الاسلامي انساني وشامل على العقوبة ان تأتي ضمن جهاز قضائي وقوانين ضابطة والا ستعود مجتمعاتنا الى عصر الجاهلية". قضية رأي عام لا شك ان جدلية تطبيق عقوبة الاعدام تحولت الى قضية رأي عام، فبين قائل ان القتل القانوني، اي الاعدام، لا يلغي الجريمة انما يلغي القاتل وبين آخر يعتبر ان هذه العقوبة ليست جزاء للفاعل واقتصاصا منه فقط انما هي رادع للغير، وان التضحية بحياة فرد يبررها الحفاظ على حياة الاخرين، تمر اسماء ضحايا القتل، كشريط مضرج باللون الاحمر مسجلا اسماء كثيرة منها: ميريام الاشقر، ايلي نعمان، رولان شبير، ايف نوفل، اليان شميطلي، مارسيلينو ظماطا، جورج الريف، سارة سليمان وآخرهم روي حاموش الذي قتل يوم عيد ميلاده بدم بارد، فهل من نهاية لهذا النفق المظلم؟
===== ن.م