الخميس 31 تشرين الأول 2024

06:14 am

الزوار:
متصل:

جران البترونية صغيرة بجغرافيتها وكبيرة بتاريخها وعراقة رجالاتها وبحبها للعلم

تحقيق: غسان عازار

وطنية - جران بلدة بترونية تغنى بها الشعراء والادباء واجتهد المؤرخون في تسميتها. يقول فيها الاديب امين الريحاني في كتابه "قلب لبنان"، تحت عنوان " جران وصاحبها ابن البلدة خير الله خير الله" عدنا من دير كفيفان في الطريق الذي سلكناه اليه. وبعد عشر دقائق أشرفنا على بساتين الزيتون والسفرجل في كف الوادي، ثم على الصخرة المزدانة بأشجار السنديان وقد نبتت في نخاريبها، فاذا نحن في جران حيث القينا جراننا".

وعن تسمية جران يقول: هذه من جذر جرن، والذي يهمنا منها في هذا الزمان هو هذا:
جرن الحب جرنا طحنة، اجترن الحب جمعه في الجرنين، اجترن الرجل اتخذ جرينا، الجرن ومن لا يعرفه من اكلة الكبة في لبنان؟ الجرن جمع اجران وجران البيدر. وهذه مادة جرن اخترتها مثالا للجرنين، لان اسم القرية جران حيث ولد خيرالله خيرالله مشتق منها.

ويتابع: "ان خيرالله لجدير بهذه الجولة اللغوية، وبهذه التبرئة من السريانية، فقد كان رحمه الله عربيا في حياته الباريسية اللبنانية، عربيا صافي النزعة، صادق اللهجة، بعيدا مدى النظر والامل. حرا طموحا كريما.

ويضيف: ولد خيرالله في هذا البيت الصغير، الجميل بايوانه وصحنه وعليته القائمة فوق الصخرة المزدانة بالسنديان، وقد لبس في صباه الثوب الأسود، فتعلم شيئا من اللغة السريانية ليلبي الدعوة الروحية للكهنوت، غير أنه علم بعدئذ، وهو في بلجيكا حيث أرسله البطريرك إلياس الحويك ليتمم دروسه في جامعة لوفن أنه أخطأ ظنه بتلك الدعوة، فكتب إلى البطريرك ليقول: إنه ليس لها وإنه عادل عن قصده فاحترم البطريرك حرية ضميره وأقام على محبته مدة حياته.

عاد خيرالله من بلجيكا إلى باريس في سنة 1910 فتعرف إلى أندريه تارديو الذي كان يومئذ رئيس تحرير جريدة " Le Temps" فأعجب به وبدأ يكتب خيرالله واستمر عشرون عاما يحرر أخبار الشرق الادنى ويكتب المقالات في السياسة العربية واللبنانية.

وفي العودة إلى تسمية جران فإن المؤرخ أنيس فريحه رد التسمية إلى العبرانية وجعلها من لفظة Goren أي بيادر القمح، فالتقى بذلك مع أمين الريحاني ويذكر في كتابه معلم أسماء المدن والقرى اللبنانية بأن التسمية تعود إلى الأصل البحري والفينيقي وتشتق من لفظة البيدر ومنها جرن أي طحن وجرش . ويلتقي بذلك ألمؤرخ عفيف مرهج في موسوعته. أعرف لبنان حول إسم جران مع فرعيه وهذا ما أكده أيضا الخور اسقف يوسف داغر في مخطوطة الإستقصاء البطريركي، بأنه شاهد أثناء جولته على بعض قرى بلاد البترون بتكليف من البطريرك الماروني عند مروره بجران جرنا كبيرا في ساحة كنيسة مار ضومط. وإن الأب لامنس أثناء جولته للتعرف على اثر بلاد البترون مر في جران وأتى على ذكر هذه الصخرة الكبيرة المنقورة بشكل جرن ووصفها بأنها عبارة عن قدر من تلك الأجران التي كانت تستعمل في معاصر العنب والزيتون والعديد منها فتنتشر بين كروم القرية وأحيائها.

الشاعر والمؤرخ عبدالله ابي عبد الله، إبن جران، يرى أن إسم جران كمعظم أسماء قرى بلاد البترون، ولا سيما القرى اللبنانية المارونية عموما تعود بمعظمها إلى الفترة الرامية وعندها يكون اسمها مشتقا من جيرونا التي تدل على المكان المجاور أو المجوف أي المنخفض. وجران هي الاكثر إنخفاضا بين القرى المحطة بها وفيها محلة تعرف بالجورة كانت مشهورة بزراعة السفرجل، ولما كانت السريانية هي بنت الأرامية أو لهجتها الشعبية فهناك لفظة غارانا السريانية هي الأخرى تدل على المنخفض أو الجورة أي جران بالذات، بمقابل لفظة كفيفانو التي تعني المكان المقبب ومنها اشتق إسم جارة جران كفيفان.

حدودها
تقع بلدة جران في منطقة البترون الوسطى، ترتفع عن سطح البحر 450 مترا، تبعد عن البترون مركز القضاء حوالي 12 كلم. يحدها من الشرق دريا ورامات وكفيفان حيث دير القديسين قبريانوس ويوستينا الذي يحتضن برائحة القداسة ضريح القديس نعمة الله كساب الحرديني وضريح الطوباوي الاخ اسطفان نعمه، من الغرب اده والمدينة الكشفية ومراح شديد.

لقد وصلت إليها الطريق وتحديدا إلى عين شمونه إله الصحة عند الفينيقين سنة 300 ق.م. وكان ذلك حوالي العام 1912. ويذكر بأنه كانت تصل الطريق لتسهيل المواصلات إلى مدرسة النصر حيث افتتحت مدرسة، والطريقان من البترون وصولا اليهما لتسهيل عمليات تنقل التلامذة والاساتذة. وكان الركاب الذين ينزلون في تلك المنطقة يتابعون سيرهم على الأقدام أو يستأجرون بغلا أو دابة يحملون اغراضهم عليها للوصول إلى قراهم.

حديقة الشعراء
تحتضن جران البترونية أثارا تعود إلى أيام الفينيقيين والبيزنطيين، فهي صغيرة بجغرافيتها وكبيرة بتاريخها وعراقة رجالاتها وبحبها للعلم. جديدها ولادة حديقة الشعراء على أيدي الشاعر عبدالله ابي عبدالله وهي الأولى في لبنان. وشهدت البلدة إفتتاح مكتبة عامة بعشرة الاف كتاب تعزيزا للثقافة وتحفيزا للمطالعة، فقد اطلقت رجالات تولوا مناصب عالية ابرزها الصحافي والسياسي خيرالله خيرالله الذي دوى إسمه في المحافل الدولية مدافعا عن قضايا الوطن والامة العربية فحكم عليه جمال باشا بالإعدام في العام 1916. وقد لاق حتفه قتلا في تونس سنة 1930 وهو القائل "حكمتم علي بالموت وانا أحكم عليكم بالزوال، وان وصيته خير دليل على محبته لوطنه، فيها يقول لصديقه المونسنيور عمانوئيل فارس الصوراتي: إذا مت في الغربة أرجو أن تحرقوا جثماني وتضعوا بقاياي الرمادية في قنينة وتطرحوها في البحر لعل موجة تقذفها نحو الشرق وترميها على صخور شواطئ البترون".

وفي مقاله: "جران وصاحبها" في كتابه قلب لبنان قال الريحاني: عاد جثمان خيرالله مع كنز ثمين : الكتب ... الكتب ... الكتب.

تعد بلدة جران من القرى والبلدات الجميلة، تقع في مكان منخفض على أكتاف تلال جميلة تزدان بأشجار الزيتون والسنديان والعفص والبطم والصنوبر المعمرة، وتشق البلدة طرق داخلية كأنك في نفق يلتحف سماءها زرقة اخضرارها فتحجب عنك أشعة الشمس المحرقة صيفا، فيحلو لك التنزه في دروبها على زقزقة العصافير المتنقلة على أغصانها . وفي المقلب الأخر للبلدة الطريق الواسع الاوتوستراد الذي حط رحاله في وسطها فحولها الى مفترق طرق يوصلها بالبترون وبسائر الأقضية، فشكلت إمبراطورية سياحية لوفرة مطاعمها المنتشرة على جانبي الطريق وامتدادا إلى الجوار مقصدا لزوار المنطقة فضلا عن كونها جارة موقعين دينيين جربتا وكفيفان.

في البلدة مجلس بلدي حديث النشأة مؤلف من تسعة أعضاء ترأسه الدكتور جورج طنوس وتوالى على رئاسته المهندس فيليب سعد. كما يوجد فيها تجمع للمدارس الرسمية ومتجران ومحال موزعة على جانبي الطريق - اوتوستراد، ومشغل لتصليح الأسلحة وصيدلية وأفران.

سكانها
أما سكانها، فهم بحدود الألف شخص يتوزعون على مئة وثلاثين بيتا، وهم بمعظمهم ينتسبون إلى الأسرة المعادية وقد نزحوا إليها من معاد في اواخر القرن الثامن عشر, اضافة إلى من سبقهم في السكن فيها في المراحل السابقة. وأهم أسرها ال رزق وفرح أو الخوري وباز وعقل وخير وسركيس ويوسف وحنا وأنطون وطنوس وهلال (سالم وريشا) وسعد وأبي ناصيف وشاهين ومدلج وخيرالله وابي عبدالله، اضافة إلى نحو عشرة بيوت بنوا لهم أو ورثوا منازل فيها. واخر من قطن فيها ولا سيما في حي الحمرا من خارج الأسرة المعادية, وفي حي رامات ال نون وأصلهم من مشمش في بلاد جبيل. وفي الحرب العالمية الأولى هاجر ثلث سكان البلدة إلى أميركا الجنوبية ومات الثلث جوعا، وبقي الثلث الأخير وعددهم نحو 130 شخصا.

أحياء البلدة
في البلدة أحياء تجد فيها مواقع أثرية من أيام الفينيقيين وهي رامات التي تتبع جران إداريا ودير كفيفان عقاريا، حي الضيعة حيث كنيسة مار ضومط، والحارات، وحي العزاقة، وحي الحمرا أو السرايات حيث عين شمونة التي تشفي من الأمراض على حد قول الأديب مارون عبود في كتابه الفارس الاحمر ويوصف ماؤها بأنه كالعسل.

ويستدل من أحياء البلدات على المرحلة السريانية الأرامية، من خلال ما تحمله من طابعها القديم أسماء قديمة تعود إلى المرحلة الأرامية السريانية، ونذكر أنه في محلة رامات يوجد معلم قديم العهد، وهو كنيسة السيدة البيزنطية الطراز.

وقد اظهرت مديرية الأثار اللبنانية فسيفساء خارج الكنيسة الحالية تؤكد كونها شيدت فوق ، أو مكان كنيسة بيزنطية سابقا أكثر إتساعا من الكنيسة الحالية. وهذا ما وضع البعض على اعتبارها قصرا بطريركيا لارتباط أسماء بعض البطاركة بها ولا سيما البطريرك يعقوب الراماتي المولود فيها ومقره في سيدة ايليج وقد رممت وأصبحت مزارا يقصده المتعبدون.

في محلة رامات معلم آخر هو بئر ماء يدعى "بير الراس" وكان يقصده المتعبدون ويرمون في مائه القطع النقدية الحجرية مقسمين ألا يأكلوا المقادم والرأس حتى يصبح الإبن البكر بمقدوره أن يذبح الكراز, وذلك عندما يموت أحد اولادهم الذي يلي الإبن البكر لكي يبقي الله المولود الثاني على قيد الحياة.

اما الحي الثاني للبلدة فهو حي الضيعة ومن أبرز معالمه السياحية ساحة البيادر وكانت قديما بيادر لدراسة القمح لأبناء الحي كافة. وهذا ما يستوقف لربط إسم جران به عملا باستنتاج أمين الريحاني ومع من ذكرنا من المؤرخين حول علاقات إسم جران ببيادر القمح والدراسة والحصاد.

المعلم الثاني في هذا الحي فهو كنيسة مار ضومط الرعائية التي يقصدها مرضى الصدر وأصحاب الامراض العصبية والمفاصل. ويذكر أن الكنيسة تضم قبرا دفن فيه أحد رجالات البلدة الصحافي خيرالله خيرالله. ويقول فيه الاديب امين الريحاني وهذا صاحب الخيال خيرالله.

والغنائم في كنيسة القرية تحت باع من التراب عند الباب, يدوسه كل يوم المتعبدات والمتعبدون. وفي داخل الكنيسة كتابة رومانية على لوحة حجرية في خزانة الحائط الشمالي تشير إلى قبر أحد القادة الرومانيين. إضافة إلى سلم من أدراج صخرية يتصل بالكنيسة التي بنيت على انقاض معبد وثني قديم العهد لم يبق من أثره سوى قاعدة عمود من الرخام رائعة الزخارف مثبتة في ساحة الكنيسة. كما توجد فجوة على هضبة مجاورة للكنيسة تدعى تلة بو ناصيف تشير إلى أنها كانت بمثابة معبد وثني قديم نقلت حجارته لبناء الكنيسة, كما وجدت في ارجائها بعد العملات القديمة والفخاريات المحطمة وبالقرب من الكنيسة ناووس في الصخر يرجح أيضا أنه قبر لأحد قواد الرومان.

وفي البلدة حي يطلق عليه إسم حي الحارة يصل بك إلى محلة تعرف بالصليب الذي يربط القرى بطريق مار يوسف جربتا وصولا إلى بلاد جبيل, وطريق البترون وصولا إلى جردها . كما يطلق على حي أخر في البلدة إسم حي العزاقة ويحمل تسمية أرامية سريانية أي الأرض المستصلحة والمعزوقة. وكان أحد أبناء هذا الحي ويدعى بولس رزق قد أوقف بيته (المجاور لبيت والد أنطوان رزق أحد أنسبائه) وأملاكه في العام 1831 من أجل تعليم أولاد قريته فتحول هذا البيت إلى مدرسة عرفت بمدرسة النصر وقد لمع اسمها بين كبار المدارس في لبنان وقد انتقلت في العام 1839 إلى قرية كفيفان. من طلابها واساتذتها خيرالله خيرالله والخوري يوحنا طنوس والخوري يوسف الحداد والاديب مارون عبود.

من أحياء البلدة أيضا حي الحمرا أو السرايات وقد أصبح اطلالا ويطلق عليه إسم حي حماده لانهم قد أقاموا في هذه البلدة منذ القرن السادس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر. وأشار الاب يوحنا بصبوص صاحب المخطط المعادي إلى وجود مقرين في محلة الحمرا غربي جران: الأول يدعى السرايات وقد أقام فيه حكام المنطقة من بني حماده بعد دخول العثمانيين لبنان وجعلها مقرا شتويا. والحي الثاني يدعى حي الكراسي لجهة المدينة الكشفية وكان مقرا أسقفيا يقال أن أول بطاركة الموارنة يوحنا مارون يوم كان أسقفا على بلاد البترون قبل انتقاله الى كفرحي قد أقام فيه. كما يوجد في حي الحمرا كنيسة صليبية للقديسين سركيس وباخوس.

ذاكرة البلدة
وفي ذاكرة البلدة، إنه من الاخبار المتداولة إن بطل لبنان يوسف بك كرم كان صديقا حميما للشيخ فارس طنوس ابي عبدالله. وقد قام بزيارته أكثر من مرة مع مجموعة من انصاره ونزل في ضيافته وعند المساء كان يختفي عن النظر ويقضي ليلته في بيت جد الشاعر عبدالله ابي عبدالله من أمه، الخوري إلياس فرح، خوفا من عيون دولة المتصرف داوود باشا.

كما يذكر عنه بأن أحد الضباط المصريين الذين نزلوا في ضيافته أهداه سيفا حفر عليه هدية الخديوي إسماعيل وهو حاكم مصر وباني قناة السويس ومن سلالة محمد علي بك الكبير. ولا يزال هذا السيف الأثري المتميز في حيازة عائلة ابي عبدالله في جران ويدخل في ملكية حفيد فارس طنوس وسميه فارس ابراهيم ابي عبدالله. وكان أهل البلدة والجوار يستعيرونه كجلوة العروس ولتمثيل الروايات نظرا لفخامته. وإلى جانب هذا السيف رسم له باليد يعود إلى الرسام الشهير داوود القرم وذخيرة تتضمن عظام بعض القديسين ضمن أعمدة بشكل واجهة كنيسة مار بطرس في الفاتيكان ويعلوها خشبة من عود الصليب كانت تحمي من يضع ذخيرة منها في عنقه وكان لا يحق لأحد مسحها إلا بالإشارة أو بيد أسقف الابرشية وحده وهي بنوعيتها وحجمها نادرة الوجود.

كما يذكر أيضا بأن فارس المذكور قد أوقف الى دير مار يوحنا مارون ومدرسته قطعة أرض تعرف بإسم قطعة " غوش" تتضمن بساتين فاكهة ومطحنة تدار بواسطة الماء لقاء تعليم الدين مجانا لأبناء جران في المدرسة المذكورة.

هذه هي بلدة جران البترونية التي تنعم بإرث وطني وإنساني وثقافي.

تابعوا أخبار الوكالة الوطنية للاعلام عبر أثير إذاعة لبنان على الموجات 98.5 و98.1 و96.2 FM

  • خدمات الوكالة
  • خدمة الرسائل
  • تطبيق الوكالة الالكتروني
  • موقع متجاوب