تحقيق: رحاب ابو الحسن
ليس أمرا عاديا الإحتفال بالإستقلال. فعندما كنا أطفالا كنا نعتقد أن الإستقلال شيئ عادي وأن الإحتفال به يقتصر على عرض عسكري يقام كل عام في 22 تشرين الثاني في حضور رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس النيابي ومجلس الوزراء ووزراء ونواب وشخصيات كثيرة نشاهدها عبر التلفاز فرحين بالطائرات التي تمر في السماء وبصوتها القوي وب"الهليكوبتر" التي ترمي الأعلام اللبنانية من السماء ونتراكض وأصدقاءنا لالتقاطها.
اليوم بتنا نعرف معنى الإستقلال الحقيقي، إنه أمر مختلف، فهو مسألة كيانية أكثر منها مسألة عيد يستعاد كل عام مثل كل الأعياد الجميلة التي نحبها، إنه وطن وشعب وحياة مستقرة آمنة، إنه إستقلال يعبر عن الحماية التي يطمح إليها كل واحد منا ونتوق إليها كثيرا ولا سيما في هذه الأيام العصيبة حيث الشوق إلى "الإستقلال" عن كل المصاعب والمآسي التي نعيشها بات مطلبا.
سبعون عاما مرت على لبنان، عاش خلالها ظروفا سياسية وحروبا صعبة وتدخلات خارجية، لكنها جميعها لم توهن الإيمان بضرورة قيام لبنان الدولة الحرة ذات السيادة والإستقلال الذي هو الركيزة الأساس لبقاء الوطن، وأن الحفاظ عليه، دونه مصاعب وتضحيات جسام، لكنه أمانة الأسلاف الذين كابدوا من أجله ظلمات السجون والمعتقلات، وقدموا على دربه قوافل الشهداء، فلا تهاون في تحمل المسؤولية، ولا تفريط بصون الأمانة الغالية.
ولا بد لنا في هذا اليوم المجيد من تذكير الجيل الحالي بحكاية الإستقلال ومعانيها وأهمية التضحية لتحقيق المكاسب الوطنية.
حكاية إستقلال لبنان.. 1943- 2013
بعد الحرب العالمية الاولى وخروج العثمانيين من لبنان وباقي المنطقة العربية دخلت فرنسا الى لبنان وأصبح تحت الإنتداب الفرنسي.
في أيلول من العام 1920 أعلن المفوض السامي لدولة الإنتداب الفرنسي الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير على أن تكون بيروت عاصمة لها. وتمثل العلم بدمج علمي فرنسا ولبنان معا، وضمت ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار) والبقاع مع أقضيته الاربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا) فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع الى 10452 كلم مربع وازداد سكانه من 414 ألف نسمة الى 628 ألف نسمة.
وفي 23 أيار من عام 1926 أقر مجلس الممثلين الدستور وأعلن قيام الجمهورية اللبنانية، لينتخب بعدها شارل دباس كأول رئيس للبنان.
رفض المسلمون "دولة لبنان الكبير" وطالبوا بالإنضمام إلى "الدولة العربية" برئاسة الأمير فيصل، غير أن عددا من اللبنانيين أمثال رياض الصلح وبشارة الخوري وفي الفترة ما بين 1930 و1943 وجدوا "صيغة" عرفت في ما بعد بالميثاق الوطني اللبناني.
في بداية الحرب العالمية الثانية، ازداد الوضع العسكري سوءا أمام الفيشيين وقلت إمداداتهم العسكرية وقل إهتمام هتلر بجبهة الشرق الاوسط اضطر الفيشيون ان يقبلوا بشروط الحلفاء لوقف القتال والاستسلام في 8 تموز 1941. جرت مفاوضات بين الجانبين (الإنكليز والفيشيين ) في عكا، إنتهت بتوقيع إتفاقية الهدنة في 14 تموز 1941 التي قضت بإنسحاب الفيشيين من لبنان وسوريا، بعد ذلك تسلم الفرنسيون السلطة في لبنان وسوريا وحلوا محل الفيشيين، وتولى الجنرال كاترو سلطة المفوض بصفة مندوب عام لفرنسا الحرة. كان الجنرال كاترو قد وعد اللبنانيين بالإستقلال في بيانه المؤرخ في 8 حزيران 1941 قبل بدء الحملة العسكرية، إلا أن اللبنانيين بمختلف طوائفهم إحتجوا على هذا النوع من الإستقلال واعتبروه مزيفا لأن الدستور ما زال معلقا والفرنسيون هم الذين عينوا رئيسا للجمهورية (الفرد النقاش ) واحتفظوا لأنفسهم بحق التدخل في شؤون لبنان الداخلية، وعملوا على ربط البلاد بمعاهدة شبيهة بمعاهدة 1936، لهذا الأمر كان الإجتماع الوطني الكبير الذي عقد في بكركي في 25 كانون الاول 1941، برعاية البطريرك انطوان عريضة وفي حضور ممثلين عن مختلف الطوائف والمناطق، كما كان الشيخ بشارة الخوري (زعيم الكتلة الدستورية) ورياض الصلح (زعيم بارز في الحركة الوطنية ) من أبرز المحتجين على إستقلال كاترو المزيف، وقد طالب المحتجون بإستقلال لبنان التام وعودة الحياة الدستورية إليه وإجراء إنتخابات نيابية حرة وتشكيل حكومة وطنية صحيحة.
ومع شعور اللبنانيين بأن الإنتداب تحول إلى إحتلال، وفوزالشيخ بشارة الخوري برئاسة الجمهورية بتاريخ 21 ايلول 1943 وتأليف حكومة برئاسة رياض الصلح من السادة: رياض الصلح، كميل شمعون، حبيب أبي شهلا، عادل عسيران، الأمير مجيد أرسلان وسليم تقلا، أعلن الإستقلال التام. وقد عمدت الحكومة الجديدة إلى إعتماد إتفاق غير مكتوب بين المسيحيين والمسلمين، يعبرعن صيغة عيش مشترك بين اللبنانيين ضمن لبنان الحرالمستقل، إنبثق هذا الميثاق من خطاب بشارة الخوري ومن البيان الوزاري الذي ألقاه رياض الصلح أمام النواب، وقد تضمن الميثاق المبادئ التالية:
- لبنان جمهورية مستقلة ترفض الحماية الأجنبية أو الإنضمام إلى أي دولة عربية.
- لبنان وطن لجميع اللبنانيين على تعدد طوائفهم ومعتقداتهم وهو جزء من العالم العربي.
- لبنان موطن الحريات العامة يتمتع بها اللبنانيون على أساس المساواة.
- يتخلى المسلمون عن المطالبة بالوحدة أو الإتحاد مع الشرق العربي، وفي المقابل يتخلى المسيحيون عن المطالبة بالحماية من الغرب الأجنبي.
بعد الإتفاق على صيغة بيان العيش المشترك لم تقم حكومة الإستقلال بزيارة المفوض الفرنسي، كما كان متبعا في السابق لأن ذلك يتنافى مع مفهوم الإستقلال، وقد اعتبرت الحكومة المفوض سفيرا لبلاده في لبنان، لذا عليه، حسب البروتوكول،أن يقوم هو بزيارة رئيس الحكومة للتهنئة، لكن ذلك لم يحصل. فقامت الحكومة بالرد على ذلك بتحديد البيان الوزاري بدون إشراك المفوضية الفرنسية، وإصدار الحكومة مذكرة بوجوب إستعمال اللغة العربية فقط في الادارات الرسمية، ما عطل دور المستشارين الفرنسيين فيها، فضلا عن إقدامها على تعديل الدستور في 8 تشرين الثاني 1943 بدون موافقة الفرنسيين لإنهاء الإنتداب وتحقيق الإستقلال وإحالة هذا التعديل إلى المجلس النيابي لإقراره، كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى غضب الفرنسيين، فأقدم هيللو في فجر 11 تشرين الثاني 1943 على تعليق الدستور، وإعتقال رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ورئيس الوزراء رياض الصلح، والوزراء: عادل عسيران، كميل شمعون، سليم تقلا، والنائب عبد الحميد كرامي، وسجنهم في قلعة راشيا، وقضى القرار الذي أصدره هيللو بإبطال مفعول التعديل، وحل المجلس النيابي. وعين هيللو الرئيس اميل ادة رئيسا للدولة وللحكومة وطلب منه تشكيل حكومة جديدة.
وفور سماع نبأ الإعتقال توافد النواب والوزيران الباقيان خارج الإعتقال حبيب ابي شهلا والأمير مجيد أرسلان إلى منزل رئيس الجمهورية، فعقدوا جلسة تقرر فيها أن يمارس حبيب أبي شهلا بصفته نائبا لرئيس الوزارة مهام رئيس الجمهورية، وأن يشكل حكومة موقتة برئاسته يشاركه فيها الوزير مجيد أرسلان، لتقوم مقام الحكومة المعتقلة، بعد ذلك دعا صبري حمادة، رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت، النواب إلى الإجتماع في المجلس النيابي، فلم يتمكن من الحضور سوى سبعة منهم، فقرروا تعديل العلم إلى شكله الحالي.
ونظرا لمضايقة الفرنسيين للنواب المجتمعين، توجهواإلى منزل صائب سلام وهناك منح النواب المجتمعون الثقة إلى حكومة أبي شهلا المؤقتة وأكدوا أن الدستور ما زال قائما رافضين بذلك إجراءات هيللو، إنتقلت الحكومة الثنائية الموقتة، المؤلفة من حبيب أبي شهلا ومجيد أرسلان والتي اعتبرت شرعية إلى بشامون، بعد أن انضم إليها صبري حمادة. وهناك أصدرت أمرا إلى مدير مصرف سوريا ولبنان وإلى أمين صندوق الخزينة بالإمتناع عن صرف أي مبلغ إلا بعد موافقتها، وأصدرت مراسيم تنكر شرعية إميل ادة، وتأمرالموظفين بعدم إطاعته، وأنشأت الحرس الوطني للدفاع عن مقر الحكومة الشرعية الموقتة، كما أرسلت مذكرات إحتجاج إلى ممثلي الدول الكبرى والدول العربية.
لم يتعاون اللبنانيون مع اميل اده الذي عينه هيللو رئيسا للجمهورية، واندفعوا في الشوارع غاضبين، ونظموا التظاهرات وقاموا بأعمال الشغب، واصطدموا مع الفرنسيين، ونفذت المدن اللبنانية إضرابا عاما، وقام الشباب الوطني بحماية التظاهرات وتنظيمها فضلا عن إشتراك اللبنانيين طلابا ونساء ورجال أعمال واصحاب مهن مختلفة في التعبير عن رأيهم الرافض لما يجري، فكان الإستقلال الفعلي الذي أراده اللبنانيون.
في 22 تشرين الثاني من عام 1943 اضطرت حكومة فرنسا الى إطلاق المعتقلين والإعتراف بإستقلال لبنان التام بعد صمود اللبنانين حكومة وشعبا، وأصبح هذا اليوم عيدا للاستقلال. وأعلن الإستقلال بتاريخ 22 تشرين الثاني 1943 وأطلق المعتقلون. وقد اعترف بهذا الاستقلال في الاول من كانون الثاني 1944، وتم جلاء القوات الفرنسية في 31 كانون الاول 1946. وفي عام 1947 إنتسب لبنان الى جامعة الدول العربية وهيئة الامم المتحدة.
22 تشرين الثاني هو تاريخ خالد يعيده لبنان وجميع اللبنانيين، هو يوم وطني يذكرنا بإستقلال لبنان، بحكومة الإستقلال التي ناضلت من أجل الإستقلال التام للبنان، وجعلت منه بلدا مستقلا وحرا.
جميع اللبنانيين يحتفلون بهذا اليوم العظيم، أكانوا مقيمين أو مغتربين فهذا العيد للجميع. واليوم وفي ظل ما نعيشه فإن اللبنانيين يتوقون إلى اللحظة التي يتفق فيها قادتهم السياسيون ويجمعون على منحهم إستقلالا حقيقيا يعيد المغتربين منهم إلى البلد ويعطي المقيمين فيه راحة وإستقرارا وهدوءا وأمنا فقدوه منذ زمن بعيد.
============ ن.م