تحقيق ماري خوري
وطنية - لم تكن نديمة بكور الراعي تدرك ان رحلتها الى استراليا ستفقدها اعز ما لديها، زوجها واثنين من ابنائها وشقيقة زوجها، نديمة خريجة الجامعة الحاملة اجازة في الأدب العربي لطالما حلمت مثلها مثل كل ربة عائلة بمستقبل زاهر لها ولعائلتها، حلم كان يصعب تحقيقه يوما بعد يوم في طرابلس الفيحاء وتحديدا في باب التبانة حيث يقع منزلها قبالة جبل محسن حيث كان احتدام المعارك كل ليلة وازيز الرصاص المنهمر ينغص عليها هناءة العيش ويجعلها قلقة على المصير وخائفة من المستقبل.
حروب كبيرة وصغيرة عاشتها العائلة المكونة من الأب والأم، والاولاد:نور (7 سنوات)، خليل (6 سنوات) وكريم (3 سنوات) لتأمين مستلزمات الحياة الكريمة. هي تعطي دروسا خصوصية في ميتم الشعراني في منطقة ابو سمرا، ولزوجها صالون حلاقة في الشارع نفسه الذي تسكن فيه، تراجع العمل لديه نتيجة الأحداث السائدة، كانت العائلة تعول كثيرا على عيد الفطر لتحسين احوالها المادية، لكن الأمور ازدادت سوءا، فتدنى المدخول من مليوني ليرة كالمعتاد الى 300 الف ليرة، هذا الواقع جعل "زوجها الحنون والطيب" كما تصفه في حال من الضيق والعصبية، خاف على مستقبل اولاده واراد ابعادهم عن الواقع الصعب الذي يحيط بهم، واصبحت تراوده يوما بعد يوم فكرة الهجرة والسفر الى استراليا حيث اشقاؤه وافراد كثر من العائلة، لكنه ابى ان يذهب وحيدا ليعمل هناك مدة ثلاث سنوات كما اقترحوا عليه، لم يكن يطيق ولو للحظة الإبتعاد عن عائلته .
لم تأخذ نديمة في البدء هذه الرغبة على محمل الجد اعتقدت انه يمزح وعمدت الى تسجيل اولادها في مدرسة المطران في شارع عزمي لأنه سينسى رغبته هذه مع الأيام. احيانا تتحول الصدف التي لطالما ما تحمل اخبارا سارة الى صدف قاتلة، قرر زوجها السفر واصبح يدور على المكاتب التي تؤمن الهجرة، بالصدفة التقى ب "عبدالله طيبة" وطلب منه تأمين انتقاله الى استراليا وضع اسمه على لائحة الإنتظار ولم يكن يدرك انه الموت سيكون بانتظاره على قارب الموت.
استدانت العائلة الأموال من الأهل والأقارب، باعت نديمة مصاغها لتأمين مبلغ 40 الف دولار الى "طيبة" ثمنا للتأشيرات الى اندونيسيا ولبطاقات السفر ولإنتقال العائلة الى استراليا بصورة غير شرعية عن طريق جزيرة كريسماس.
سافرت العائلة في 28 آب من لبنان عبر المطار الى اندونيسيا وامضت عشر ساعات ترانزيت في مطار تركيا ووصلت في 30 آب الى جاكارتا.
فور وصولها الى هناك اخذها "حماده طيبة" الى كاميباتا سيتي واقامت العائلة في شقة هناك، وفي الغد اتت سيدة اسمها "ام سعيد" وطالبت العائلة بالمال المتبقي قبل وصول عبدالله طيبة، وعندما تمنعت نديمة عن الدفع بحجة انها لم تسافر بعد طردت من الشقة ورموا اغراضها في الشارع وابلغوها بأن "ابو صالح" عاضب جدا، فنقلت العائلة الى الفندق، وعندما اعطت نديمة الى طيبة مبلغ 23 الف دولار امضت العائلة ليلة في الفندق ثم عادت الى الشقة راضية بالأمر الواقع.
هنا تقول نديمة:"كان زوجي يخفف علي ويقول لي اصبري حتى نصل الى استراليا، وبقينا في نفس الشقة حتى 23 ايلول، علما انهم اخذونا مرتين ضمن موكب مؤلف من ست سيارات واخذوا منا هواتفنا مدعين اننا في طريقنا الى استراليا ولكن في كل مرة كانوا يقولون لنا بأن الرحلة الغيت.
يوم 24 ايلول انتقلنا في ست سيارات الى منطقة تبعد ست ساعات عن مكان اقامتنا فوصلنا الى مكان قريب من البحر ودخلنا الى كوخ صغير وبقينا فيه من الثانية عشرة ليلا حتى الخامسة صباحا. وصلنا الى نهر ومنه الى البحر في نفس العبارة. استغربنا كثيرا وسألنا هل سنسافر على هذا المركب البدائي المخصص للصيد الذي يقوده رجل كبير في السن، وهو لا يحتوي طعاما وماء وحماما ؟ سألنا ونحن خائفات شابا مقربا من "طيبة "اسمه "جوهر" فأرانا عبر هاتفه صورة باخرة فخمة لونها ابيض تحتوي على غرقة ومن ضمنها حمام وصدقنا ذلك. سرنا في اليوم الأول ثلاث ساعات وسألنا عن الباخرة التي وعدنا بها، هذا مع العلم انهم اعطونا على المركب هاتف ثريا معطلا وبوصلة معطلة. بقينا في عرض المحيط وصار الموج يأخذنا يمينا ويسارا، وقالوا لنا في اليوم الثالث ونحن في قلب المحيط :"اخلدوا الى النوم وعندما تستيقظون نكون و قد صلنا الى جزيرة كريسماس". قمنا في اليوم الرابع ولم نصل، فألح علينا شخص عراقي اسمه اسامة توفي في الحادثة ان نستعمل GPS وعندها علمنا بأننا اقرب الى جاكارتا منها الى جزيرة كريستمس، يومها كانت العبارة في حال يرثى لها، لا ماء، لا طعام، لا وقود، لا حمامات، الأولاد يبكون خوفا، بدأت المياه تتسرب الى المركب . رأينا من البعيد جزيرة كالخيال فتمسكنا بخيط الأمل للوصول الى اليابسة، كنا نريد كلنا العودة الى لبنان فقد امضينا اربعة ايام رأينا فيه الموت امام اعيننا. اقتنع القبطان بأن يعود بنا الى اندونيسيا واقتربنا من الجزيرة ولاحت امامي، ونحن جائعون وعطشى اشجار مثمرة تكفي ان نقتات منها نحن واولادنا. ولم اكد انتهي من قولي حتى رأيت نفسي مرمية تحت المركب، لم ادرك ما حدث كنت اسبح واسبح لأعلو وارى الضوء، تمسكت بشيء ما لأطفو واتنفس لأن الموج كان اسرع من الرصاص وقارب ارتفاعه نحو 10 امتار. أديت "بالشهادة" في البحر وقلت يا "الله" وراودني فكر بأني سأموت ولكنني لم استسلم ثانية، كنت اصارع الموج حتى وصلت الى مسافة تبعد خمسة امتار عن الشاطىء فزحفت على المياه ورآني شاب اندونيسي فأتى الى نجدتي، كنت منهارة ولكن اعتقدت بأن زوجي السباح من الدرجة الأولى ينتظرني على الشاطىء. ولكن رأيت بعد ذلك ابني خليل غائب عن الوعي تجره المياه، لم اعرف كيف اتتني القوة لإخراجه وبدأت اصرخ واٌقرأ القرآن واضغط على انفه وبطنه فبدأت المياه تخرج من فمه، ورد الله الروح اليه فأخذه سكان الجزيرة الى بيت وعالجوه علاجا تقليديا ثم نقلوه الى المستشفى.علمت بعد ذلك ان زوجي وولداي نور وكريم قد توفوا رأيت اولادي في الصور قد تشوهوا وتحللوا اريد ان تصل الجثث اريد ان يعودوا وارتاح لم اكن اتوقع ان تكون الخسارة بهذا الحجم ولا اشجع احدا ان يسافر بطريقة غير شرعية من الصعب جدا ان يخسر الإنسان عائلته.
"الحمد الله رب العالمين"، "الله اعطى والله اخذ"، بهذه الكلمات تنهي نديمة رواية مأساتها ومأساة عائلات كثيرة على قارب الموت، لفتني صبرها وقوة جآشها ايمانها الكبير تسليمها المطلق بالقدر وتصميمها المطلق على النضال والإستمرار من اجل وحيدها خليل".