تحقيق سونيا كفروني
بلدة المنية، الواقعة على بعد خمسة كيلومترات شمال طرابلس، تضم حي النبي يوشع الذي اكتسب اسمه من المقام الكائن في إحدى الكهوف في زاوية مرتفعة منه. المراجع التاريخية تفيد أن الفينيقيين اتخذوه معبدا وقدموا فيه النذور والقرابين، وأطلقوا على الجبل الذي يقع الكهف عند سفحه الشمالي - الغربي تسمية طور بعل أي جبل الإله تيمنا به، وأصبح هذا الاسم لاحقا جبل تربل.
يكتنف الغموض والتضارب ما توافر من معلومات عن تاريخه. من هو النبي يوشع؟ وهل هو عينه في مختلف الديانات السماوية؟
تؤكد مراجع إسلامية أن النبي يوشع هو فتى موسى، وتقول رواية مسيحية ان النبي يوشع هو يشوع بن نون، الذي خلف موسى في حكم بلاد الأرض المقدسة زهاء ألف وخمسمائة عام قبل الميلاد وقد ورد ذكره في سفر الخروج في العهد القديم في الرواية التي تحدثت عن توجهه إلى بلاد كنعان لفتحها، ولما لم تنته المعركة، أمر الشمس بالتوقف، إلى أن انتهت المعركة وانتصر فيها.
وتورد الأحاديث النبوية الشريفة الرواية كما وردت في سفر الخروج. ورغم ذلك لم يتبن مرجع تاريخي أو ديني الاعتقاد الشعبي أن النبي يوشع، أي فتى موسى، هو يشوع بن نون، وهو الذي دفن في هذا المقام.
أما المؤرخ الدكتور عمر تدمري فيذكر في الجزء الأول من كتابه "تاريخ طرابلس السياسي والحضاري" أن الرحالة برخارد يشير الى ان الضريح يقع أسفل جبل الفهود، وهو اسم قديم أطلق على جبل تربل وعلى بعد فرسخين من طرابلس، وهو كهف فيه معبد ضخم.
ولا يصدق برخارد أن القبر للنبي يوشع، بحسب التدمري الذي يعتقد أنه قبر كنعان بن حام بن نوح، أو أحد أبنائه، دون أن يذكر برخارد هذا الاعتقاد.
ويتابع التدمري بحثه في ميل واضح إلى نفي أن يكون المقام هو للنبي يوشع فتى موسى. فيقول ان الرحالة الشيخ عبد الغني النابلسي زاره وذكره في كتابه "الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز"، وقال أن القبر طوله زهاء عشرة أذرع، وارتفاعه زهاء ذراعين، وداخله فارغ، وله طاقات حوله، وعلى القبر انبوب من حجر، ذكر أنه إذا شحت المياه في القرية يجري فيه الماء بقدرة الله تعالى.
ويضيف التدمري: "كتب على القبر نص يقول: "هذا قبر العبد الفقير الشيخ يوشع، عمره السلطان المقتفي الصالحي بطرابلس". لكن التدمري يستدرك أن "لا وجود للملك المذكور في طرابلس.
المقام
المقام في الأساس كهف يرتفع زهاء سبعة أمتار عن الطريق العام، يدخله قاصده بعد تسلق سلم يفضي إلى المسجد الحامل لاسم صاحب المقام، وبداخله، على الزاوية اليمنى المتقدمة من المسجد، كهف صخري محفور، وفيه قبر على عمق متر ونصف المتر عن أرضه، وأضيفت إليه مداميك منذ أيام العرب، فالمماليك، فالعثمانيين، الذين جعلوا سطحه هرمي الشكل على طريقتهم. وفيه فتحات عثمانية في المدماك الأعلى، ويبلغ طوله سبعة أمتار.
وتشير لوحة عليه لجهة مدخله أن والي طرابلس محمد باشا بنى تربة فوق القبر، وإلى الجهة اليسرى من سطحه قناة صغيرة من الحجر لتصريف المياه المتقطرة من سقف المغارة وهي تتسرب من مياه السيول على سطحها عبر شقوق تحدثها جذور بعض الأشجار، ما يهدد جزءا من سقفه بالانهيار.
وبنى العامة روايات عن تقطر المياه من سقفه وأعطوا لذلك معنى المعجزة، وقالوا أنه إذا شحت المياه في القرية، يجري الماء في القبر بقدرة الله. وفي فترات لاحقة، جرت إضافات على الكهف، فبنى المماليك المسجد الذي يحمل اسم النبي يوشع، وأقاموا خلفه تكية تعلوها لوحة رخام عليها أبيات شعر وعندما جاء العثمانيون، أحدثوا فيه أعمال ترميم إضافية، أما الطابق السفلي في الجامع، فبناء يستعمل لأغراض خاصة.
يؤم المقام أناس من الأديان المختلفة، اليهود خصوصا الذين قطنوا وادي أبو جميل في بيروت، وكذلك المسيحيون والمسلمون، ويقدمون نذورهم منذ مئات الأعوام كما بدا خلال زيارة المقام، حيث حملت سيدة طفلها، وهي حافية القدمين، وقالت إن ابنها سقط من مرتفع وكاد يموت، فنذرت أنها ستقوم بزيارة المقام حافية في حال نجا الولد من الحادث. دخلت السيدة المقام حافية القدمين تحمل ابنها، وتمسح وجهه من المياه المتقطرة من السقف على المقام. وأفادت سيدة رافقتها في الزيارة أن "كثيرين يقيمون النذور، فيقدمون الشموع، أو الزيوت، وما شابه، من أجل غائب أو مريض أو محتاج".
يرعى المقام عبد المجيد صبيح، الذي يفضل أن يقال أنه يخدم المقام، وذكر أنه ورث المهمة عن أجداده منذ أيام السلطنة العثمانية، وتعتبر عائلته فرعا لآل المولوي ذوي الأصل التركي. وشكا من فقر الاهتمام بالمقام من قبل المعنيين، ذاكرا أن "عائلته كانت تقوم بترميم المقام وتحسين أحواله، وكان لبعض المحسنين مساهمات عينية في تلك الأعمال.