الخميس 31 تشرين الأول 2024

12:24 pm

الزوار:
متصل:

بلد العسل والمسك والبخور لوثت مياهه المراحيض الارتوازية تقاعس في تطبيق القوانين وغياب السياسة المائية افسدا نوعية المياه

 

تحقيق خليل سمعان
 
 
أزمة مياه الشفة في لبنان تدخل مرحلة خطيرة لاسباب جوهرية كثيرة، فقد اتسعت رقعة مياه الشرب وكادت تغطي معظم الاراضي اللبنانية. أهم هذه الاسباب التي لا بد من التركيز عليها هو التقاعس عن تطبيق القوانين التي تشترعها السلطات المتعاقبة وتنشرها في وسائل الاعلام، خصوصا في الجريدة الرسمية الى غياب سياسة مائية جدية غالبا ما تميزت بالعفوية والارتجال والاهمال أحيانا وفقدان التصميم.
 
يتساءل الناس بدهشة وحرقة كيف أن وزارة البيئة والمجالس البلدية، وهي برلمانات صغيرة في المناطق، قد تلتزم الصمت بشأن قوانين لا تزال في الادراج، وازاء المخالفات الصارخة التي عرضت بعض المناطق والانهر اللبنانية التاريخية الكبيرة للتلوث. والتي كانت مياهها عبر قرون، تروي الناس ومزروعاتهم جيلا بعد جيل.
 
وثيقة التفتيش المركزي والوثائق المعنية في هذا الموضوع اكثر من الهم على القلب
نشير الى بعضها على سبيل المثال: في التاسع من تشرين الثاني من العام 1967، أصدر التفتيش المركزي (المفتشية العامة الصحية والاجتماعية والزراعية) مذكرة بتكليف المفتش العام الصحي الدكتور الياس الحايك اعداد تحقيق في أسباب التلوث الجرثومي لمياه الشرب في لبنان. وقد مرت اليوم 45 سنة على هذا التقرير الذي يشرح فيه الدكتور حايك الاوضاع المتردية لمياه الشفة الملوثة، وحذر فيه من أخطارها على حياة الناس اذا لم تتخذ التدابير الواقية قبل فوات الاوان.
 
 
 
 
 
يسأل الدكتور الحايك في تقريره، الذي أصبح اليوم بمثابة وثيقة تستند عليها المراجع المعنية، ربما وجد في أعالي الجبال وفي بعض الاماكن النائية عن السكن مياها صالحة للشرب في حالتها الطبيعية. ولا ريب في أن هذه الصيغة التي مضى عليها هذا الوقت الطويل تشكل في حد ذاتها انذارا يرتدي طابع الخطورة. الا أنه بقي، كما اتضح من تطور الاحداث حبرا على ورق، بدليل قلة المياه الصالحة للشرب في بلادنا اليوم على رغم وفرة المياه في ربوعنا، واعتماد معظم الناس على شراء مياه الشفة المعبأة في القناني والغالونات البلاستيكية، والتي أصبحت بدورها الى الفواتير الاخرى, تقضم جزءا مهما من رواتب ذوي الدخل المحدود.
 
ولما كان هذا التقرير يقع في اثنتين وأربعين صفحة عززها كاتبه بالوقائع الدامغة نثبت بعضا منها، ان الامراض المنتقلة الى الانسان بواسطة مياه الشرب كثيرة وأهمها: الكوليرا، الزحار لاميبي، الزحار الجرثومي، التيفوئيد، التهاب الكبد. وكل هذه الامراض المائية منتشرة في لبنان، باستثناء الكوليرا خصوصا في المناطق النائية ذات الكثافة السكانية.
 
ويضيف التقرير: لن نكون بعيدين عن الحقيقة ان قلنا ان لبنان هو بلد متخلف في هذه الناحية، وان الامراض المائية لا تزال منتشرة فيه انتشارا فادحا، لا يتفق مع مصلحتنا من حيث المحافظة على صحة المواطنين، وهي تهم من حيث سمعتنا كبلد متقدم أو بلد سياحي.
 
ويقول تقرير رسمي ان مياه الشرب في وضعها الحاضر تفتقر الى فحوص مخبرية يومية وهذا ليس متوفرا بشكل كاف، وان استعمال الكلور وحده في مصافي المياه والخزانات الرسمية لا يكفي للحصول على مياه نقية صالحة للشرب، أضف الى ذلك امكانية اهتراء قساطل المياه, وان كل وصلاتها قد تكون غير محكمة، وان ضغط الماء فيها ليس كافيا وان انقطاعها المستمر حدث ولا حرج، بالاضافة الى مرور بعض شبكات المياه بالقرب من الحفر الصحية التي يعمد بعض أصحاب الابنية الى استغلال المطر الغزير لفتح هذه الحفر وضخ مياهها الآسنة على الطرق العامة فتمتزج بمياه الامطار وتنشر الروائح الكريهة. وهذا ما نشاهده بأم العين في أكثر من حي في ظل غياب شبه كامل للبلديات، وفي ظل انتشار الابار الارتوازية المفقودة القعر ولاسيما في المشاريع السياحية، وفي الابنية الفخمة التي تسرب مياه الصرف الصحي والمياه المبتذلة الى جوف الارض، فتختلط بالمياه العذبة. وفي ظل غياب شبكات المجارير على رغم الوعود الكثيرة وعلى انشاء محطات التكرير لها في بعض الاقضية والمدن ويتضح من الدراسات التي تضعها مؤسسات متخصصة، لا سيما مؤسسة اليونيسيف التابعة للامم المتحدة، أن مياه الشرب في لبنان ملوثة، ولم ينج من هذا التلوث سوى بعض الينابيع في الجبال التي تعلو ما فوق الالفي متر عن سطح البحر.
 
المبيدات والنفايات الصناعية:
وقد ورد في دراسة موسعة نشرت تحت عنوان "ملامح التنمية البشرية المستدامة في لبنان" لحساب برنامج الامم المتحدة الانمائي (p.d.n.u) في بيروت في شهر كانون الثاني عام 1997. لقد أدى الاستعمال المفرط للمبيدات والمواد الكيمائية الزراعية، وغياب المراقبة على عملية التخلص من النفايات الصناعية والصلبة والمياه المبتذلة والزيوت المستعملة الى افساد نوعية المياه في لبنان.
 
ويضيف المرجع نفسه حسب المسح المعني بفحص نوعية المياه الذي قامت به اليونيسيف بالتعاون مع الجامعة الاميركية في بيروت، تبين أن نحو سبعين في المئة من جميع مصادر المياه الطبيعية ومياه الانابيب معرضة للتلوث البكترلوجي.
 
ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم لم يتغير شيء في الامر الى الافضل بل زادت الامور سوءا وتعقيدا. وقد أفاد تقرير رسمي بناء على فحوص مخبرية دقيقة أن مياه الينابيع المستخرجة من باطن الارض على المدخل الشمالي لاحدى المدن الساحلية في محافظة جبل لبنان ملوثة بنسبة مئة في المئة وتؤدي الى امراض خطيرة ومميتة، وقد رفع التقرير الى الجهات الرسمية المختصة على مختلف مواقعها ولم تعر الامر بالغ الاهمية سوى بالتوصية بتركيب مضخات الكلور على فوهات الينابيع التي تزود الصهاريج التي تنقل المياه باستمرار الى المواطنين لاستخدامها في الاستعمال المنزلي.
 
مرسوم اخر في الادراج
ومن القوانين الصادرة في شأن مياه الشرب مرسوم يحمل الرقم 8735 تاريخ 23 اب 1974 ونشر في الجريدة الرسمية رقم 72 تاريخ 9/9/1974 ويتألف من سبع وثلاثين مادة جميعها جديرة باهتمام المواطنين الذين يحرصون على سلامة صحتهم وصحة عيالهم وسلامة بيئتهم، وقد جاء في المادة الثالثة منه: يمنع تفريغ مياه الحفر الصحية والمياه المبتذلة خارج المنازل والمحلات والمؤسسات الصناعية ضمن مجاري المياه أو على شاطئ البحر أو ضمن حرم الينابيع والانهار أو في الاقبية الشتوية أو في شبكة المجارير غير المنجزة فنيا وغير المرخص باستعمالها.
 
مشروع قانون صادر بالمرسوم رقم 8735 تاريخ 23/اب 1974 يمنع طرح أنقاض المباني وأتربة الحفريات والحجارة وغيرها والنفايات والفضلات الزراعية والصناعية وطرح المركبات والسيارات المهملة والمشطوبة من مصلحة تسجيل السيارات وأنقاضها وهياكلها وأجزائها على الشوارع والساحات وملحقاتها وجوانبها وأقنيتها.
 
ثمانية وثلاثون عاما انقضت منذ صدور هذا المرسوم، وكان المنتظر أن تتقلص بعد ذلك موجة حفر ابار المراحيض الارتوازية، الا أن الذي حدث أن هذه الابار قد عمت الاراضي اللبنانية لاسيما المدن، من دون أن توفر القرى في أقاصي الارياف، واستنادا الى احصاءات أجرتها جهات مسؤولة في احدى البلدات الساحلية الكبيرة والمهمة في محافظة جبل لبنان حفر 285 مرحاضا ارتوازيا منها 85 بئرا حفرت في السنوات الاخيرة.
 
لقد تجاهل المواطنون وبعض المسؤولين هذا القانون وسواه، ونسي المسؤولون ما اشترعوه من قوانين بقيت من دون تطبيق. فكان المواطن يتقدم بطلب من السلطات المحلية أو وزارة الشؤون المائية والكهربائية يعرب فيه عن رغبته في التنقيب عن المياه، وكانت المراجع المختصة توافق بسهولة على الطلب من دون ملاحقته لمعرفة النتائج، ويتم الحفر على أعماق متفاوتة حتى بلوغ مياه البحر أو مياه الينابيع الجوفية. وعندها يتم وصل البئر المحفورة بالمرحاض. واذا سئل صاحب العلاقة عن مصير البئر المحفورة والمياه المزمع استخراجها، كان الجواب التقليدي: لم نعثر على المياه وردمنا البئر كأن شيئا لم يكن".
 
ويقول موظف قديم في الوزارة المختصة: ان مقدم الطلب كان يحصل على اجازة الحفر بالسهولة ذاتها التي يحصل فيها على بطاقة دخول السينما، والدليل الساطع على صحة ما يقول، انتشار الاف الابار الارتوازية المفقودة القعر المنتشرة على مساحة الاراضي اللبنانية والتي لوثت مياه الينابيع والعيون التي يرتوي منها الناس ومياه البحر ايضا. وهكذا يبدو من تسلسل ما تقدم أن لبنان لا يفتقر الى تشريعات جديدة بل هو يملك قوانين حضارية لا ينقصها سوى التنفيذ.
 
لقد تغنى اباؤنا وأجدادنا ومفكرون أجانب كبار زاروا هذه الربوع من أدباء وكتاب وشعراء منهم أرنست رنان ولو مارتين، على مر الزمن بلبنان ووصفوه بلد العسل والمسك والبخور، فأين نحن اليوم من تلك الايام؟
 

تابعوا أخبار الوكالة الوطنية للاعلام عبر أثير إذاعة لبنان على الموجات 98.5 و98.1 و96.2 FM

  • خدمات الوكالة
  • خدمة الرسائل
  • تطبيق الوكالة الالكتروني
  • موقع متجاوب