تحقيق فريد بو فرنسيس
على بعد حوالى خمسة كيلومترات جنوبي مدينة زغرتا، وعلى يمين الطريق المؤدية الى بلدة مزيارة في القضاء، تقع قلعة بربر اغا الاثرية، على مساحة تمتد الى حدود الـ 8455 مترا مربعا في العقار 740 في منطقة ايعال في قضاء زغرتا. ووفق الصحيفة العقارية فقد كتب تحت عنوان أسماء المالكين: وقف مصطفى آغا بربر/ ذري، خيري، يعود الى ذرية الواقف وفق شروط الوقفية المدونة في الحجة المؤرخة في 25 جمادي الآخر السنة 1231هـ،ـ أي قبيل وفاة بربر في 28 نيسان 1835 مسيحية". وهذا التاريخ ذكره الامير بشير الشهابي في كتاب عن وفاة بربر أرسله الى حاكم مصر آنذاك محمد علي باشا.
قلعة بربر، بنيت من حجر مقصوب، تحتوي على تسع غرف للسكن، وثلاث فسحات دار مسقوفة، وثلاثة مطابخ، وست غرف مؤونة وست فسحات سماوية، وخمس برك ماء، وفرنا ومدخلين مسقوفين ومدخلا سماويا (مكشوفا) وعشرين غرفة خراب، ومدافع وأسوارا، وسلالم حجرية، وبقايا أعمدة وقناطر وسراديب، وخمسة أدرجة (سلالم) حجرية داخلية وعقودا، ومدفنا خاصا، وحدائق تزرع بقولا وفيها أشجار من كل الانواع وخصوصا الزيتون المعمر، اضافة الى عدد من اشجار النخيل والرمان والتين. ويعلو قسما من هذا العقار في الجهة القبلية 8 غرف ومطبخان وفسحة ودار وسجن وقنطرة للشنق، وقبر بربر المهمل مع قبور حاشيته.
هذه القلعة الفسيحة تغطي الاعشاب والاشواك البرية قسما كبيرا من معالمها المتبقية، وتبدو أطلالا تدعو الى الدهشة والاستنكار، علما انها مصنفة من الامكنة الاثرية منذ 38 سنة، وهي متروكة الى درجة ان لا أحدا يسمع بها او يعلم اين تقع حتى من ابناء البلدات المجاورة.
بلدة ايعال كانت قبل ان يتملكها بربر ويبني فيها حصنه، قرية قديمة، ذكرها غير مؤرخ منهم البطريرك اسطفان الدويهي وفيليب حتي والخوري عون نجيم في يوميته التي كانت تنشر في مجلة "المشرق" اذ يقول: "في 15 ايار 1693 جمع علي باشا والي طرابلس كل حكام المنطقة المحيطة به: مقدمي ايعال، وأمير الكورة، وحاكم الجبة (مخايل غلوس الكرمي الاهدني) وابو كيروز من بشري، وابن دندش ومقدمي بيت الشاعر (حكام البترون والزاوية المسلمين) وكلهم اجتمعوا على عداوة بيت حمادة المتاولة".
الخوري اغناطيوس الخوري، ابن بلدة كفرشخنا التي تبعد بضع كيلومترات في مواجهة قلعة بربر في ايعال، عاش في المنطقة، واستهوته أخبار بربر "وحكمته وسعة حيلته" فتتبع آثاره وحكاياته وأخبار ولايته لطرابلس وحروبه الكثيرة، فترك كتابا روى فيه قصة مصطفى آغا بربر وأخباره الطريفة، وأثار جوانب مهمة من أحداث القرن التاسع عشر في المنطقة، من الجزيرة العربية الى تركيا، ومن ايران الى البحر المتوسط، مع قرب نهاية الحكم العثماني والاجتياح المصري على يد محمد علي باشا وابنه ابرهيم باشا للشاطىء السوري واحتلاله.
وسبق الخوري عدد كبير من المؤرخين الذين خصصوا كتبا وصفحات كثيرة من مدوناتهم التاريخية لاعمال بربر آغا. وأهم هؤلاء الامير حيدر الشهابي المعاصر لبربر، خصوصا في مؤلفه الشهير "الغرر الحسان في تاريخ أبناء الزمان" الذي طبعه أسد رستم وفؤاد افرام البستاني العام 1931 في ثلاثة مجلدات. وكذلك الشيخ طنوس الشدياق الذي كان يعرف بيد الامير بشير اليمنى، وهو ابن عمة البطريرك بولس مسعد وشقيق الشاعر والكاتب الشيخ احمد فارس الشدياق. واليهما كتب عن بربر نوفل نوفل وجرجي يني الطرابلسيين والمعلم ابرهيم عدرا كاتب ديوان سليمان باشا والي دمشق التي تتبعها ولاية طرابلس. ثم مخايل الدمشقي أحد كتبة السلطان في دمشق.
يضاف الى هؤلاء عشرات القناصل والرحالة الغربيين والموفدين الديبلوماسيين، وأخيرا كل من عيسى المعلوف ومحمد كردعلي والشيخ بولس مسعد، وكلهم توسعوا في دراسة شخصية بربر وسردوا أعماله الغريبة وقلعته التي لم يسكن فيها سوى وقت قصير. أجمع كل هؤلاء المؤرخين ان بربر ولد في طرابلس العام 1767 مسيحية. وتوفي في قلعة ايعال حيث دفن في 19 محرم العام 1250 هجرية - 1835 مسيحية، ووفق صك مكتوب وجد مع احد أحفاد مماليك بربر الساكنين في القلعة حتى يومنا هذا، وفيه جدول بممتلكات بربر ونص وصيته. وفيه ان بربر هو مصطفى آغا ابن السيد حسن بربر زادة من عائلة القرق في طرابلس المحمية. ومعروف أن في طرابلس عائلتين تحملان نفس الاسم الاولى سنية ومنها تحدر بربر، وارثوذكسية لا يزال افرادها يسكنون طرابلس. وكلمة بربر تعني الحلاق بالتركية، وربما حرفت عن الفرنسية "باربييه" اي الحلاق.
من هو بربر؟
كل المعلومات التي تقصاها المؤرخون عن عائلة بربر أكدت انه ولد من أب فقير وخامل، مات أبوه وتركه مع أخيه محمد معدمين. فانتقلت بهما والدتهما الى قرية برسا القريبة في الكورة حيث لا يزال الناس يتوارثون أخبار بربر. وتلتقي هذه الاخبار مع ما ذكره القناصل والمؤرخون من ان بربر عمل خادما لدى بعض الوجهاء في الكورة، ثم ناطورا لحقول الزيتون، كما عمل في الزراعة وجمع الحطب والبلان وبيعه في طرابلس لأصحاب الافران. ثم انتقل من دار الى دار، مرورا بدور حكام بعض النواحي في الكورة والضنية والزاوية. وقد فتحت أمامه الابواب بعد ان عمل جنديا عند باب الامير حسن شهاب شقيق الامير بشير.
وأن ما حرص عليه بربر في ان يرافق اسمه، بعد ان حكم طرابلس، من مفردات التعظيم والتفخيم كان للتعويض. شقيقه محمد الشقي لقب بعزرائيل، وكان له دور بارز في حكم أخيه وحقق له ثروة وأراضي وممتلكات وقد ترك وقفا باسمه لا يزال يعرف بوقف عزرائيل.
ويستفاد من اقوال المؤرخين، خصوصا نوفل نوفل وجرجي يني الطرابلسيين، ان ابرهيم باشا، الذي اجتاح السلطنة العثمانية في فلسطين والشام ولبنان واحتل مدنها وقلاعها، غضب على بربر رغم انه ساعد في اجهاض محاولة انقلاب ضد العسكر المصري في طرابلس وضد فتنة حاول المتعصبون اثارتها بين المسلمين والمسيحيين في المدينة. وهذه المحاولة تزامنت مع ثورة الفلسطينيين على ابرهيم باشا في عكا ويافا والداخل. وكان بربر شارك في مقاومة الفتنة وحال نزوله من قلعته في حزيران 1934 الى طرابلس دون ابادة 400 جندي مصري حاول خصومهم المدعومون من الاتراك قتلهم، واثارة فتنة طائفية عن طريق جمع أعيان ووجهاء المسيحيين وذبحهم. وقد اوفد ابرهيم باشا الامير خليل ابن الامير بشير الشهابي الى طرابلس فالتقى قائد الحامية المصرية سليم بك وقبضا على 25 رأسا من المتآمرين وسجنوهم في قلعة طرابلس وعوقب الطرابلسيون على تمردهم بقتل 13 شخصا من وجهاء المدينة طرحت جثثهم في الشارع مدة ثلاثة ايام للعبرة والارهاب.
ولكن بربر الجريء أعلن استنكاره قتل الاعيان وانتقد الضرائب غير المحتملة التي فرضها ابرهيم باشا الذي ابلغه الجواسيس ما يقوله بربر، فأرسل اليه رسالة تهديد وجدت في محفوظاته ختمها الباشا بالآتي: "من يتدخل في ما لا يعنيه لاقى ما لا يرضيه.. احفظ لسانك.. واذا بلغني عنك المزيد فلن أشفق ولن أرحم شيخوختك".…هذه الرسالة المتوعدة كانت تعني الموت لبربر في كل لحظة، فأسرع يستنجد بالامير بشير الشهابي صديق ابرهيم باشا وحليفه ولاذ بقصره مدة من الزمن حتى تولى يوسف بك الشريف حكم طرابلس، فعاد بربر الى قلعته في ايعال حيث توفي فجأة.
ومن ملامح الكلام عن موته في كتب المؤرخين يفهم ان بربر قضى بسكتة قلبية او ما شابه. ويقول جرجي يني نقلا عن الياس صدقة ان موت بربر الفجائي لم يكن مستغربا في تلك السرعة عقب تسلمه رسالة ابرهيم باشا المزعجة. وقد توفي بربر يوم الاثنين في 18 شوال العام 1250 هجرية ودفن في اليوم التالي الموافق في 28 نيسان السنة 1835 مسيحية. وفور انتشار النبأ سارع والي طرابلس مع أعوانه الى القلعة فضبطوا موجوداتها وصادروها وأوقفوا الجنود لحراستها. غير ان أحد أعوان بربر تمكن من الوصول الى مصر واسترحام محمد علي باشا مدافعا عن سيده. فأمر محمد علي برفع الحجز عن القلعة وعن ممتلكات بربر التي باتت وقفا على زوجاته واولاد عمه ومماليكه وذريتهم.
اهمال القلعة
وعودة الى قلعة ايعال، فرغم قرار وزير السياحة الذي صدر في 12/8/1966 وقضى بادخال العقارات 731 و685 و728 و686 و729 و730 المجاورة للعقار 740 من منطقة ايعال الذي تقوم عليه القلعة والعقار 741 الذي يقوم عليه مسجد القلعة، في قائمة الجرد العام للأبنية والمعالم الاثرية في لبنان، ونص القرار على "عدم جواز القيام بأي عمل من شأنه تغيير شكل العقارات المشار اليها ومنظرها العام الا بعد موافقة خطية من المديرية العامة للآثار"، فان القلعة بقيت من دون اي اهتمام من اي مصدر ومن دون تأهيل او ترميم، وباستثناء زيارات متقطعة لبعض المؤرخين والاعلاميين والفنانين الذين حاولوا استطلاع صلاحية القلعة لاقامة مهرجانات فنية فيها، فان الاهمال ووضع القلعة المزري ووعورة أرضها أبعدت الزوار والسياح عنها.