تحقيق ريما يوسف
من براد الى العاصي الى وادي قنوبين ... طريق مزروعة بالشهادة والايمان ونكران الذات للوصول الى السمو والرفعة ومصافي الانبياء.
بدأت رحلة القديس مارون في سوريا من قرية زبد بجوار معرة النعمان حيث ولد، إلى براد في حلب حيث دفن. إنه "أبو الامة المارونية". لم يجزم المفكرون عن المكان الذي تنسك فيه القديس مارون، لكن العلماء الموارنة اتفقوا على أنه ولد وتنسك في شمال غرب العاصي. كما اتفق العلماء على أنه كان سريانيا واللغة التي تكلم بها، هي اللغة السريانية المنتشرة في منطقة أنطاكيا.
وذكر الباحثون ان دير القديس مارون الموجود في سوريا هو في الواقع "كهف مارون"، او مغارة الرهبان، الموجود في لبنان في منطقة الهرمل، ويعتقد أن أحد تلامذة مارون، قد تنسك في المغارة بعد وفاة القديس مارون، وأطلق اسم معلمه عليها كما أن المغارة الأخرى الموجودة على مطلع نهر "إبراهيم"، الموجودة في منطقة قريبة من بيروت في لبنان، قد تنسك بها أحد رهبان مارون أيضا واسمه إبراهيم ما ادى إلى إطلاق اسمه ليس فقط على المغارة بل على النهر أيضا.
وللدلالة على أهمية دير القديس مارون، فقد كان اثنان من الرهبان يشاركان في أعمال المجامع المسكونية التي تعقد كل فترة، وقد كان للرهبان الموارنة دور بارز في المجمع الخامس، حيث وجهوا رسالة إلى الامبراطور يوسطنيان الأول، وإلى البطريرك مينا، وكانت الرسالة بدأت بعبارة:"من رهبان دير القديس مارون كبير أديرة الخلقيدونيين".
بعد وفاة مارون، شكل الرهبان الموارنة الذين كانوا يقطنون معه على تلة في الهرمل ديرا، يعود موقعه الى عهد الديانات القديمة وهو في الاصل معابد رومانية، واضافوا اليه بنيانا من الطراز المعماري الذي كان سائدا آنذاك. وقد شكل نواة الكنيسة المارونية المعروفة اليوم ونظرا للاهمية الكبيرة للموارنة، فقد أمر الامبراطور مرقيان توسيع الدير وتشييده، وقد وصل عدد الرهبان فيه إلى ما يفوق 500 راهب، وقد نزحوا الى هذا البلد قاصدين الحرية لأن لبنان كان ملاذا للمضطهدين.
مغارة الراهب
بدأت من "مغارة الراهب" رحلة التبشير التي كانت حصنا منحوتا بالصخر على ضفاف العاصي، وكانت مقرا للرهبان من مرحلة نشر الرسالة حتى الاستشهاد. وحمل المقام اسم دير مار مارون، وبقي كما هو، معلم آثار تستوقفك عظمة تكوينه.
من يقف عند منبع نهر العاصي، في منطقة الهرمل (البقاع الشرقي) على اقدام البناء المحفور في الصخرة الشامخة المعروف بدير مار مارون، ويلتفت الى صوب جبل لبنان، تبدو له طريقان يسلكهما المارة، طريق اول يتسلل في مضيق يصل منبع نهر العاصي بجبل جرود العاقورة في اعلى منطقة جبيل، وطريق ثان يسلل ايضا في مضيق يصل الى منبع النهر المذكور بجبل الارز ووادي قاديشا، فالماروني الاول الذي ودع مسقط رأسه شمالي سوريا متوجها الى الجبل اللبناني، كان ينظر الى الحرية التي يتمتع بها هذا الجبل.
يطلقون على هذه المغارة اسم "قصر البناة" ليدلوا على المهندسين الرومان الذين اتخذوا من هذا المكان مقرا لهم ليبنوا القنوات المائية الى مملكة تدمر، وقد بنوا معها قاموع الهرمل من الحجارة عينها التي بني بها الدير المذكور. ويقال ايضا ان الامبراطور مرقيانوس قدم المغارة المذكورة هدية للرهبان القادمين من دير مار مارون قرب حمص مكافأة لهم لأنهم وسموها وجعلوها ديرا للصلاة والتأمل والعبادة، ثم حفروا بداخلها بئرا يتصل بنهر العاصي كي لا يضطروا الى الخروج منها، خصوصا ايام الاضطهادات.
ومقام دير مار مارون منحوت ضمن صخر كبير مؤلف من ثلاثة طوابق يرجع تاريخه إلى 1600 عام، وما لا ريب فيه أن الناس تحصنوا فيها سابقا. يستدل على ذلك مما أقاموه من الأبنية في مدخلها للمدافعة عنها فزادوها منعة على حصانتها الطبيعية.
مغارة الراهب تفوق المغاور بمحاسنها. وكانت في الأصل طبيعية، سكنتها كما يظهر قبائل عادية في العصور السابقة للتاريخ. ولعل هذه القبائل فضلتها على سواها لحسن موقعها قرب نهر كبير. وفيها منتديات نقروها في الصخر مع قبة ذات حنية مقوسة ودرج داخلي يصعد منه إلى الطبقات العليا وبئر عميق الغور يبلغ إلى مياه النهر.
أما المغاور، وهي عدة طبقات ترتفع عن مستوى النهر ستين مترا، فتتصل في ما بينها بأدراج وسلالم وفي وسطها حفر البئر المذكور عميقا، وتحول الحج الى هذه المغاور (الدير) للأسف الى مأساة، لأنه بسبب عدم الانتباه والحيطة وعدم وجود مرشدين، وقع في هذه البئر زوار اتقياء وسائحون يعشقون التعرف الى الحضارات القديمة وماتوا.
تاريخ الملكية
ملكية العقار كانت باسم حسن مصطفى دندش (2200 سهم)، ومحمد مخيبر دندش (100 سهم)، وآخرين من آل دندش (100 سهم). وفي شهر حزيران 1970 تم بيع حصتي حسن دندش ومحمد دندش إلى أسد بولس الأشقر (2300 سهم)، استملك منه 715 مترا مربعا عام 1963، و1795 مترا مربعا عام 1975 لحرم مجرى النهر. فمع التحضير والإعداد لملف الاستملاكات الأخير لحرم السد التحويلي - القسم الأول، شمل الاستملاك كامل المساحة المتبقية من العقار المذكور أي 8423 مترا مربعا، وأقسام من عقارات أخرى على جانبي ضفة النهر ولمسافات تتجاوز حدود عقار الدير. وصدر مرسوم المنفعة العامة الرقم 11170/2003، ومن ثم قرار دفع التعويضات ووضع اليد بموجب قراري وزير الطاقة والمياه الصادرين في حزيران 2004، تبع هذين القرارين صدور سند تمليك للقسم المستملك يحمل الرقم 7 دير مار مارون، ضمنه مقام الدير.
المطران عطالله
واعتبر راعي أبرشية بعلبك والبقاع الشمالي المطران سمعان عطاالله في حديث الى "الوكالة الوطنية للاعلام" أن "الدراسات وضعت لترميم المغارة من تنظيف للحيطان وترميم للغرف"، مؤكدا "عدم وجود أي ممول لترميمها من الدولة، فالممول الوحيد المحسنون والاديرة، الا ان وزارة الآثار أرسلت مهندسا للاشراف على عملية الترميم يتقاضى أجره من المطرانية".
واشار الى "ان المطرانية ستقوم حاليا ببناء سياج حول المغارة لحمايته من قطعان المواشي والمنقبين عن الذهب".
ولفت إلى أنه "وبعد سنوات من الجهد الكبير توصلت أبرشية بعلبك - دير الاحمر الى توقيع عقد مع وزارة الطاقة والمياه - المديرية العامة للموارد المائية والكهربائية - بناء على المرسوم الرقم 4733، تاريخ 31 تموز سنة 2010، ويقضي بأن تستثمر الابرشية هذا الموقع الرهباني الماروني - الذي تبلغ مساحته 9000 متر مربع - على صعيد الحج الديني وعلى صعيد اعادة الحياة الروحية اليه، بحيث يصبح موقعا وطنيا".
مغارة الرهبان تاريخ طائفة ووطن، أهميتها حضارية، وتاريخها الديني عريق:انها موقع سياحي لافت ومكان حج جذاب وأرض مقدسة وجذور غنية وتراث ناطق ينتظر الأيادي البيضاء لتعيد إليه رونقه.