الخميس 31 تشرين الأول 2024

12:25 pm

الزوار:
متصل:

صناعة الصابون عمرها من عمر سليمان الحكيم اشتهرت في نابلس وطرابلس وارتبطت بأسماء عائلات شمالية

 

 
تحقيق اورسولا الخوري
 
 
شجرة الزيتون شجرة مباركة لدى الديانات السماوية ذكرت في الكتب الدينية، وقصة نوح عن غصن الزيتون في فم الحمامة علامة سلام ومحبة وضوء اخضر عن عودة الحياة الى الارض. شجرة تعمر اكثر من خمسة الاف سنة وفوائدها جمة، يستخرج منها ذهب سائل يستعمل اضافة الى الطعام في الادوية والعلاجات وصناعة الصابون.
 
 
 
 
 
المراجع التاريخية تؤكد ان حكماء "الاطباء القدماء" في مدينة طرابلس كانوا من الاوائل باطلاق هذه صناعة الصابون، الا ان قصيدة الشاعر محمد احمد العمد الذي يتمدح فيها نابلس في فلسطين تشير الى ان المدينة هي مهد هذه الصناعة، ويقول في قصيدته:
 
زيتون طاف الزمان بزيتها أنقى من الماء القراح صفاء
قد سال كالنهر المبارك دفقا غدقا يروي في البلاد ظماء 
صابونها عطر يشع وضاءة كالمسك نفحا والثلوج نقاء
قد ظل الاف السنين ولم يزل يندي الجسوم ويغسل الافداء
 
تفيد المراجع ان صناعة الصابون قديمة جدا كغيرها من الصناعات، عمرها من عمر سليمان الحكيم واشتهرت في مدينتي نابلس في فلسطين وطرابلس في لبنان منذ الف سنة ونيف، وتعتمد هذه السلعة على زيت الزيتون الطبيعي وعلى المواد النباتية التي تستخرج منها الروائح العطرة، وكانت هذه الصناعة في بادىء الامر عملا "بيتوتيا" ثانويا تقوم به الزوجة والاولاد، وربما تم تطويرها من مبدأ شعبي بسيط وهو غسل الاجسام من الاوساخ العالقة بها باستعمال هذا المحلول العجيب في تلك الفترة.
 
 
 
 
 
صابون نابلس
 
نالت نابلس شهرة كبيرة في هذا المضمار في زمن الصليبيين، وكانت بمثابة احتكار ملكي، وهذا يعني انه كان محظورا على اصحاب مصانع الصابون في نابلس وغيرها من المدن الصناعية ممارسة هذه المهنة الا بعد ان يمنحهم ملك بيت المقدس عقدا يقضي بالسماح لهم بالعمل في هذه الصناعة، وليس من شك في ان مالك بيت المقدس ضمن دخلا ماديا ثابتا من اصحاب المصانع في نابلس وغيرها من مدن مملكة بيت المقدس اللاتينية، ومن المرجح ايضا ان صناعة الصابون من اشهر الصناعات في العصر الصليبي و كانت نابلس تصنع الصابون من زيت الزيتون في ذلك العهد.
 
عرفت هذه الصناعة في شرق البحر الابيض المتوسط قبل ان تعرفها اوروبا، ويعتقد الايطاليون انهم عرفوا هذه الصناعة في بلدهم ولكن باستخدام الدهن الحيواني، وقد بدأ انتاج الصابون الاوروبي في العصور الوسطى وربما انتقلت هذه الصناعة على ايدي الصليبيين الى فرنسا فتأسست مصانع الصابون من زيت الزيتون في مرسيليا وكانت هذه المصانع تحضر بطريقة مشابهة لطريقة تحضير الصابون النابلسي. وفي القرن الرابع عشر انتشرت صناعة الصابون في انكلترا، وفي ذلك الوقت كان تجار نابلس يجوبون الوطن العربي لبيع الصابون الذي كان ضرورة ملحة للنظافة عند العرب، في حين كان متعة المترفين في انجلترا، ولم يستخدم الا في الحمامات العامة، وقد قضي على هذه الصناعة في اوروبا باندثار الحمامات العامة.
 
 
 
 
 
اما في العهد الممولكي فكانت السلطنة تفرض على اصحاب المصابن شراء الزيت المتحصل للسلطنة من المزارعين بسعر محدد بلغ خمسة عشر دينارا ذهبيا في العام 1490، وفي العهد العثماني انحصرت صناعة الصابون بأصحاب الثروة والسلطة من الملتزمين لاموال الميري وكبار التجار لانها كانت ذات دخل مرتفع جدا مقابل الامكانيات الكبيرة التي تتطلبها. وفي مطلع هذا القرن تنبه المصريون والسوريون لرواج صناعة الصابون فبدأوا في انشاء مصابن في مصر وسوريا تنتج الصابون ويطلق عليه اسم صابون نابلسي.
 
بقي الصابون النابلسي رمز الجودة ومحور الاهتمام، وما زالت نابلس حتى الان تشتهر بالصابون المصنوع من زيت الزيتون الصافي والمنسوب اليها، و قبل زلزال العام 1927 الذي ضرب المدينة كان ينتشر فيها اكثر من ثلاث وثلاثين مصبنة مقسمة على ستة احياء وهم الغرب، العقبة، الياسمينة، القريون، القيسارية والحبلة وبقي منها حتى اليوم عدد قليل، فمنهم من اقفل ابوابه وانتقل الى اماكن اخرى بسبب الزلزال او لاسباب سياسية والاخرون هاجروا الى بلاد الاغتراب جراء الاوضاع الاقتصادية و المعيشية.
 
 
 
 
 
صابون طرابلس
 
اما في ما يعود لدور طرابلس - لبنان باطلاق هذه الصناعة، فهناك اكثر من مرجع يؤكد ريادية المدينة في هذه الحرفة التي ازدهرت فيها منذ اكثر من ألف عام. وقد واكب فن صناعة الصابون فنون الكيمياء والصيدلة وامتازت بالتركيبات المتعلقة بالصحة الخارجية والجمال. وتحدثت الراوايات المتناقلة والمتداولة ان صنعة الصابون كانت متواجدة منذ أيام ادونيس وعشتروت، ولكن الوقائع التاريخية والعلمية تؤكد ان اهل العلم في طرابلس من كيميائيين وغيرهم كانوا الاوائل والسباقين في صناعة الصابون للحفاظ على النظافة والعناية بالصحة الخارجية و الجمال، ما ادى الى قيام سوق جديدة عرفت بسوق الحكماء الذي ما زال قائما حتى أيامنا هذه وهو يعرف الان بسوق العطارين.
 
 
 
 
 
وفي ظل هذا الازدهار المحلي لصناعة الصابون، انكب الحرفيون على الاهتمام بالشكل الخارجي لمنتوجاتهم الفنية وأخذوا يتفننون به وينحتونه و يعتمدونه ضمن عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، واستخدموه في المناسبات السعيدة من اعياد وافراح وحفلات اجتماعية. وهذا ما جعل الطلب يتزايد على هذا الانتاج اللبناني الراقي حتى اضحى مع الوقت علما يتميز به لبنان دون سائر البلاد المجاورة، حيث طرقت هذه الحرفة ابواب تركيا وبعض بلدان اوروبا التي كانت اساطيلها البحرية التجارية تزور شواطىء المتوسط في لبنان، ويقال في طرابلس ان تلك الفترة عرفت بالعصر الذهبي من تجارة وصناعة الصابون.
 
خان الصابون 
 
صناعة الصابون في لبنان من الحرف القديمة التي أتقنها اللبنانيون وخصوصا سكان طرابلس، ويعد خان الصابون أهم مركز تجاري يعنى بصناعة هذه السلعة، ويعود تاريخ إنشائه إلى القرن الخامس عشر. يقبع هذا الخان، الذي بناه والي طرابلس يوسف بك سيفا عام 1480م ثم تحول في القرن التاسع عشر إلى أملاك خاصة، على مساحة تقدر بخمسة آلاف متر مربع. وقد أطلق عليه هذا الاسم التجار اللبنانيون والأوروبيون الذين كانوا يربطون خيولهم فيه ليأخذوا حمولتهم وحاجاتهم من الصابون.
 
 
 
 
 
خان الصابون مليء بالعطور والألوان والهندسة المعمارية العتيقة التي تعود إلى ما قبل سبعمائة عام. بابه الخشبي الكبير صامد بالقرب من سوق الذهب بمحاله البراقة بين العقد القديمة. ومن البوابة الضخمة إلى البركة الحجرية فالقناطر والقبب التي تزين الخان والغرف ذات العقود الأثرية تفوح روائح الياسمين والغاردينيا والورد والصنوبر التي تستقطب اهتمام الزوار.
 
بدر حسون
 
بدر حسون أحد احفاد رواد هذه الحرفة في هذا المعلم الاثري، عملت عائلته في صناعة الصابون منذ نحو الف سنة ونيف. منتوجاته متنوعة وتفوح منها الروائح العطرة. يعمل ليلا نهارا لتطوير انتاجه وفي الوقت عينه يحافظ على تراث آبائه وأجداده.
 
 
 
 
 
ويؤكد حسون "ان صناعة الصابون تحتاج إلى إطلاع واسع على أنواع الزيوت والعطور والزهور وتأثيراتها على الجسم البشري وما تحققه من فوائد"، وقال: "نحن ننتج نحو 1400 نوع من الصابون، وكل الأعمال تصنع يدويا. اما المواد الاولية المستخدمة في هذه الصناعة فهي عبارة عن زهور وأعشاب ونباتات طبيعية وزيوت، ونشاطنا الدؤوب شجع السياح العرب والأجانب على زيارة طرابلس ومشاهدة "خان الصابون" وشراء منتجات الصابون الطبي والمعطر والمتعدد الاستخدام".
 
واستعرض حسون أنواع الصابون التي ينتجها الخان وهي: الملكي، البلدي العشبي، العطري، الزيتي، والصابون العلاجي لأمراض متعددة كالروماتيزم والحساسية الجلدية وإزالة التشنجات وإزالة القشرة وغيرها...
 
وأشار الى ان صناعة صابون زيت الزيتون ارتبطت بأسماء عائلات طرابلسية وشمالية عريقة كانت قد استخدمت محصول الزيتون في التصنيع وبنت المصابن في الزاهرية والميناء والأسواق وفي خان الصابون التي كانت مقصدا للناس من مختلف المناطق والبلدان لشراء الصابون أو لتصنيعه عبر كميات من الزيت. ولكن هذه الصناعة ما لبثت أن تراجعت مع التطور العمراني الذي شهدته المدينة في العقود الاخيرة من الزمن، وباتت تقتصر على عدد معين من المهتمين الذين ما زالوا يحافظون على هذا الارث ولا سيما عائلات عويضة وعلم الدين وحسون.
 
وعن كيفية صناعة الصابون قال حسون: "هذه السلعة تحتاج الى زيت زيتون عالي الجودة، وقليل الأسيد حيث يصار الى تكريره ومن ثم يضاف إليه الماء والملح، ومادة الكوستيك، ومن ثم يطبخ على حرارة مرتفعة، ويصب على الأرض، ويجري تقطيعه الى مربعات، ولا يكون مفيدا للجسم إلا إذا كان الزيت صافيا ونظيفا، وعلى هذا الاساس تقاس جودة صابون زيت الزيتون بخلوه من المواد الكيماوية التي تستخدم بكثرة في صناعة الصابون العادي.
 
 
 
 
 
ولفت الى ان صناعة صابون زيت الزيتون شهدت منذ أكثر من عقد من الزمن تطورا كبيرا يتمثل بإضافة بعض الأدوية والأعشاب والعطور الطبيعية مثل العسل، الغار، النخالة، فوسفور الكبريت، البابونج، الليمون، النعناع، ومختلف أنواع الورود ولا سيما الياسمين والغاردينيا، الامر الذي أدى الى انتشار واسع لهذه الصناعة التي تجاوزت طرابلس الى كل المناطق اللبنانية وإلى بعض البلدان العربية والاجنبية. علما أن عملية طبخ الصابون الطبي والمعطر تتم على البارد، بينما يطبخ الصابون العادي على الساخن".
 
وأكد ان صابون زيت الزيتون الاصلي بات غير متوفر بكثرة وخصوصا في ظل صناعة الصابون التجاري من الشحم والمواد الكيماوية، وإستيراد الصابون الأجنبي الذي يصنع من زيوت أخرى، وقال: "يبقى صابون زيت الزيتون الذي ننتجه الأساس كونه الصابون الوحيد الصافي والخالي من أي مواد كيماوية، وله فوائد كثيرة للوجه والبشرة وإزالة القشرة، وتقوية الشعر و غيرها".
 
 
 
 
 
وأشار الى أنواع الصابون الثلاثة المعروفة وهي: الخلطة الطرابلسية والخلطة السلطانية والخلطة الملكية، وان كل خلطة لها مكونات مختلفة عن الأخرى وطريقة مختلفة في التصنيع. وقال: "الصابون البلدي العشبي هو خلطة ذات
 
 
 
رغوة غنية وعطر طبيعي، كما أن كل مكونات هذا النوع من الصابون البلدي العشبي مستخرجة من الأعشاب والزهور الطبعية. اما الصابون العلاجي فانه مجموعة من المركبات الصيدلانية التي كان يعالج بها الحكماء المشاكل الجلدية مثل الأكزيما، الحكة، الفطريات، الصدفية، الجرب، تساقط الشعر، قشرة الشعر، البشرة الدهنية، البشرة الجافة، حب الشباب، رائحة التعرق، مزيل لون الجلد الغامق من على الوجه والأماكن الداكنة في الأماكن الحساسة وتحت الأبط. 
 
وعن صابون الكريمات العطرية، قال: "انها مجموعة من العطور المركبة بشمع النحل والزيوت الناقلة والزيوت والأعشاب العطرية، وهذه الخلطة مخصصة لتعطير بعض الأماكن الحساسة عند الرجال والنساء، وهي مثبتة للعطر على الجلد دون أن تسبب مشاكل مثل التي تسببها المعطرات الكيمائية. صابون كريمات العناية بالبشرة يغذي البشرة وهو يستعمل لازالة السواد وما شابه من تحت العين، فضلا عن صابون يستخرج من زيوت الأعشاب المختلفة والتي تستعمل لتقوية الشعر وتطرية الجلد. كما ان هناك الصابون العرايسي أو الصابون الطرابلسي التراثي، الصابون المزخرف او صابون الزينة وصابون البرش المعطر للزينة وصابون البرش وصابون الشموع العطرية التي تستعمل لافاحة عطرها في العلاج النفسي".
 
 
 
 
 
وأعلن أنه "تم انشاء قرية تتضمن بناء اثريا وحدائق للاعشاب الطبية والعطرية باشراف اخصائيين ومنظمة ISO، كما يتضمن المشروع معامل ومختبرات متطورة تواكب العصر مع الحفاظ على تراث هذه الحرفة. وقال: "حازت القرية على شهادة الجودة لتصنيع المواد التجميلية الطبيعية، مع الاشارة الى ان عشرة معامل في العالم قد نالوا هذه الشهادة، ونحن الوحيدون في الشرق الاوسط وافريقيا حصلنا عليها و هذا بحد ذاته انجاز مهم".
 
وإن اختلفت الروايات بين من يقول ان أول من صنع الصابون هم الكيميائيون اللبنانيون في طرابلس المعروفون بالحكماء، ومن يقول انهم من نابلس في فلسطين، وبغض النظر عن من بدأ هذه الصنعة، فان لطرابلس وحكمائها ميزة لم يسبقهم عليها احد، وهي التفنن في صناعة الصابون العطري والعلاجي، والصابون المزخرف اي صابون الزينة و الهدايا.
 

تابعوا أخبار الوكالة الوطنية للاعلام عبر أثير إذاعة لبنان على الموجات 98.5 و98.1 و96.2 FM

  • خدمات الوكالة
  • خدمة الرسائل
  • تطبيق الوكالة الالكتروني
  • موقع متجاوب