تحقيق ابراهيم طعمة
رفعت في عدد من مناطق عكار لافتات واعلانات تدعو المواطنين الى وجوب الالتزام بقرار منع الصيد الصادر عن وزارة الداخلية، غير ان هذا الاعلان لم يلاق اي تجاوب على الارض من قبل الصيادين وهواة الصيد الذين استمروا بممارسة هوايتهم.
ويعتبر موسم الصيد، موسم المواسم لدى فئة كبيرة من ابناء عكار، ويشكل عند بعضهم جزءا من حياتهم يتعدى الهواية الى الحاجة.
وبين الأمس واليوم، طرأت على الصيد عوامل كثيرة اخرجت هذا القطاع من مفهومه التقليدي، وطرق ممارسته، بفعل دخول عناصر جديدة، خاصة توفر المال الذي يمكِّن كل من يرغب شراء البنادق الالية والعادية وكميات كبيرة من الخرطوش، الى الاجهزة الالكترونية المستخدمة في جذب الطيور.
كل ذلك ادى الى فوضى عارمة في عملية الصيد حيث تشهد الطرقات الجبلية في منطقة الجومة خاصة في المرتفعات الوسطية التي تشكل معبرا اجباريا للطيور المهاجرة ذهابا وايابا خلال فصلي الخريف والربيع من كل عام، حالة من هستيريا اطلاق النار على كل ما يتحرك في الجو من طيور كبيرة وصغيرة، الذي يؤكل منها ولا يؤكل، فالمهم تفريغ اكبر عدد ممكن من صناديق وعلب الخرطوش التى تستحضر لهذه الغاية.
ويصل الامر في غالب الاحيان الى استمرار اصوات اطلاق نيران البنادق دون توقف فترات طويلة، نظرا لكثافة الصيادين الذين تترواح اعمارهم بين 10 سنوات وسبعين سنة تقريبا.
وهنا تكمن اشكالية الصيد وطرق معالجتها، حيث لا مفر من وضع القوانين المنظمة لهذا القطاع بحيث يتاح لهواة الصيد ممارسة هوايتهم، ولكن ضمن احترام السلامة العامة، وعدم الحاق الاذى بالطبيعة والبيئة التي اصابتها اضرار فادحة، طالت قطاعات انتاجية زراعية خاصة الزيتون وغيره، وفي الوقت نفسه يحمي التجار ومصالحهم.
السلامة العامة قد تكون من ابرز الامور التي يجب اخذها في الحسبان ان لجهة سلامة الصيادين انفسهم، ام لجهة المواطنين والمارة في اماكن الصيد، فغالبا ما تشهد مواسم الصيد احداثا مأساوية، تودي بحياة البعض وتصيب بعضا آخر باعاقات دائمة. ومما يزيد من خطورة المسألة ان عدد القاصرين، الذين يحملون بنادق الصيد يزيد طولها عن طول قاماتهم، بتزايد مستمر، دون أي رادع او وازع، وهنا تبرز مسؤولية ودور الاهل في هذه المشكلة، قبل تحميل المسؤولية للسلطات والدولة كما هي العادة دائما، مما يحجب مسؤولية الناس في اشكاليات عديدة. وهذا لا يعني اعفاء السلطات والدولة من مسؤولياتها، فالذاكرة الشعبية حافلة بحوداث ناجمة عن الصيد البري، من شقيق قتل شقيقته او شقيقه، او قريب له، الى صديق اقتلع عين صديقه، الى شخص بترت يده او ساقه من جراء سقطة مفاجئة ادت الى انطلاق حشوة بندقيته لتصيبه باعاقة دائمة، وآخر حدث كان خلل في بندقية احد الصيادين، ادى الى تفجرها اثناء اطلاقه النار واصابته بوجهه ورأسه.
داود كفروني يحترف الصيد من صغره، وهي عادة ورثها عن والده، الذي كان يصطحبه الى بساتين قريته، فباتت هذه الهواية جزءا لا يتجزأ من حياته، لكنه يمارسها بكل عقلانية ووعي بعيدا عن الانفعال والضجيج، منتقدا الطارئين على الصيد ومفهومه التقليدي، ما ادى الى انقراض العديد من اصناف الطيور التي كانت تملأ المنطقة.
ويوضح ان الصيادين في الماضي، كانوا ينظرون الى مالك "بارودة جفت" برهبة، لأن "بارودة الدك" كانت الاكثر شعبية لبخس ثمنها من جهة، ولوجود مصنعين محليين لها، كما كان الصيد بواسطة الدبق والفخاخ منتشرا بكثرة، وجميعها زال مع انتشار البنادق الحديثة "المخمسة" و"المجوزة" (الجفت) العيار الصغير منها والكبير.
ولفت الى ان الطريق الجديدة تشهد ازدحاما بالصيادين، خاصة تلك الواقعة على التلال والهضاب المكشوفة باتجاه الشمال، وتتكرر هذه الحالة، مرتين في العام الواحد، وهي مرتبطة بفترة هجرة الطيور التي تأخذ اتجاها من الجنوب الى الشمال مع بداية الربيع، ومن الشمال الى الجنوب، مع بداية الخريف، وهي مسألة ترتبط بوجود المراعي التي تقتات منها الطيور.
ويروي ان صفوفا من الصيادين تشبه صفوف العسكر، تنتشر على تلك الطرقات، وخلف هذه الصفوف اصطفت "رنجاتهم" المدججة بصناديق الخرطوش وآلات جذب الطيور، وهنا تبدأ المجزرة الكبرى، عندما يتلقى عصفور صغير طلقات عدة دفعة واحدة، فيتناثر اشلاء في الجو، على ايقاع صيحات "النصر" ورائحة البارود، "مابيفلت أي شي بيتحرك بالجو"، "اللي بيتاكل وما بيتاكل"، "مابيكلفوا خاطرن يلموا الطريدة، المهم رموها، وثبتوا انن قبضايات".
ويوضح كفروني: "في بعض الاحيان يتواصل اطلاق النار بصورة كثيفة يخال المرء معها، انه في جبهة قتال، مع ما تحمله هذه الغزارة العشوائية من مخاطر على الصيادين انفسهم"، متحسرا على انقراض عدد كبير من الطيور، كانت تشكل مادة دسمة للصيد البري في المنطقة مثل الحجل اللبناني، وتناقص اصناف اخرى، وبات الصيد مع تحوله من حالته الفطرية المرتبطة بحياة ابناء الريف، الى حالة بات الصياد فيها مرفها ينتظر الطريدة ان تقف على فوهة البندقية لاصطيادها، مما افقد الصيد معناه الطبيعي وما يشكله من نشاط وحركة وحاجة ورياضة، متسائلا عما اذا كان هؤلاء يهوون الصيد ام يسرون باطلاق النار.
الياس الشاعر الذي أمضى في الاغتراب نحو خمسين عاما، عاد بعدها الى بلدته الام، ويتحدث بشوق وحنين على ايام البساطة والخيرات التي كانت تنعم بها المنطقة، ويستذكر كميات الطيور من الأصناف كافة الصغيرة منها والكبيرة، والتي انقرضت بغالبيتها، ويروي ان عمليات الصيد كانت تتم بواسطة الدبق، والافخاخ، "وكنا نحصل على كميات كبيرة من عصافير "الخوري" و"الشماس" وغيرها، في حين ان بواريد الصيد، كانت بغالبيتها "دك" وكان يندر وجود بواريد الجفت".
ويعتبر ان تناقص انواع واعداد الطيور اثر بشكل كبير على المواسم الزراعية، "التي لم يعرف الناس آنذاك لا اسمدة ولا سموم كيميائية، فالطيور كانت تنظف المواسم من الحشرات الضارة بها".
ابناء هذه المناطق افتقدوا اسراب السنونو، أو "الحجيج" باللغة المحكية، التي كانت تملأ الجو بصراخها المحبب مبشرة بقدوم ربيع كل عام، كما حنت اليها قراميد المنازل القديمة وشبابيكها العتيقة، التي كانت تشكل المأوى لها، غابت هذه الطيور عنها منذ اواسط السبعينات وفقدت معها البلدات والقرى الوادعة جزءا من رونقها وحيويتها.
صيد الطيور الكبيرة المهاجرة، خطر داهم على هذه الاصناف مثل اللقلاق الذي لم يبق منه على المستوى العالمي الا القليل، وهي عرضة لاطلاق نار كثيف عند عبورها الاجواء فيسقط منها ما يسقط، ويكمل ترحاله ما نجا منها، علما ان هذه الطيور الكبيرة، لا تفيد، بعد نفقها، بأي شيء، فهي غير صالحة للاكل ولا للتربية وبالتالي، فان صيدها لا فائدة منه سوى اشباع رغبة الصياد، الجاهل لأهمية هذه الطيور على المستوى البيئي.
ويعتبر خبراء بيئيون ان انتشار دودة الصندل التي تفتك بأحراج الصنوبر مرده الى انقراض طائر الكوكو وطيور صغيرة مثل القرقفان التي تستطيع اختراق البيوت العنكبوتية، لهذه الحشرة في فترة تكاثرها والقضاء عليها، وتجهد البلديات واهالي المنطقة سنويا بمكافحة ما امكن وضمن الامكانيات المتوفرة في وزارة الزراعة في مكافحة هذه الحشرة الفتاكة ولكن النتائج تبقى محدودة قياسا الى حجم المشكلة.