تحقيق محمد سيف
أطلق بعض المسؤولين الطرابلسيين بعيد تشكيل الحكومة الحالية شعار الإنماء غير المتوازن في محاولة جدية منهم لإعادة عملية الإنماء إلى "السوية المتوازنة" فعليا لعاصمة الشمال طرابلس التي عانت الحرمان والإهمال لسنوات عديدة من المشاريع الانمائية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، على حساب باقي المناطق التي احتكرت الإنماء على مر عقدين من الزمن، خصوصا في ظل سياسة التمركز الإنمائي والاقتصادي الحاد في بيروت.
هذا الحرمان الذي تعانيه جميع شرائح المجتمع الطرابلسي أوجد واقعا اقتصاديا سيئا كثر الحديث عن أسبابه وتداعياته وأثره على المدينة وضاقت آفاق الخروج منه أو معالجته في حين سئم المواطنون سماع النظريات والمواقف التي لم تأت بنتيجة، فيما انقسمت آراؤهم حول واقع الاستثمار في طرابلس، حاضره وماضيه وتباينت حول دور رجال المال والأعمال ودور الدولة في تنمية طرابلس على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
نجا
عن واقع الاستثمار، اكد النقيب خلدون نجا وهو المحامي والمطلع عن كثب على أحوال المدينة، ان طرابلس هي أفقر مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط"، وبحسب رأيه فان الاستثمار "يقوم على ثلاث ركائز أساسية، أولها المناخ ونبض الشارع يليها رأس المال الداخلي والخارجي وأخيرا البنى التحتية اللازمة التي توفرها الدولة".
وقال: "تعيش طرابلس في عصرها الحديث في مناخ لا يشجع على الاستثمار، فهي اصبحت مدينة محكومة بالحلال والحرام، وهذا ما يجعل الاستثمار فيها محدودا جدا في مجالات كالسياحة والخدمات، رغم كثرة المعالم التاريخية في المدينة العريقة"، لافتا الى بقاء مجالين للاستثمار، العمل الحرفي والعمل الصناعي. فالعمل الحرفي لا يستلزم رأس مال كبيرا، وهو متجذر في الفيحاء لما فيها من حرفيين مهرة، ولكن هذه الأعمال أصبحت مشلولة بسبب نقص التصريف وانعدام وجود الأسواق التي تحبذ وتشجع الحرفيين على متابعة أعمالهم".
وعن ماضي طرابلس الصناعي، قال نجا: "المدينة كانت صناعية لأن الصناعة كانت تأتلف مع نبض شارعها الذي يفضل العمل في الصناعة عنه في السياحة. الصناعة أصبحت كقلعة طرابلس، آثارا، فإذا كانت القلعة تزار وهيبة التاريخ تواكبها، فإن المصانع نمر عليها والدمعة في أعين آلاف العمال الذين أسسوا وطوروا هذه المصانع بعرق جبينهم".
نجا أكد "ان لاقفال هذه المصانع وعدم الاستثمار مجددا في مجال الصناعة أسبابا عديدة"، وقال: "هنا أسلط الضوء على واجبات الدولة في ميدان الصناعة ودعم المتمولين على الاستثمار في الصناعة، فالمناطق الصناعية لم تؤهل مطلقا وبقيت المشاريع حبرا على ورق. اما الطاقة وهي أحد عناصر تكوين الصناعة، فأصبحت وهذا ان وجدت، أغلى طاقة في العالم ما يرفع كلفة الانتاج فتنعدم القدرة التنافسية في سوق إغراقي خصوصا وان دولا عظمى كالصين وتركيا وفيتنام قد أغرقت أسواق الفيحاء بالبضائع التي يقل ثمنها عن ثمن كلفة الطاقة التي تحتاجها هذه السلعة لكي تنتج. فالدولة مقصرة في وضع قوانين تحفز الاستثمار في الصناعة وغيرها كالاعفاءات الضريبية وتأمين الطاقة بالسعر المعقول، وتأمين مناخ أمني يجعل من الصناعة أمرا مرغوبا فيه في عالم الاستثمار".
وفي معرض كلامه عن دور المغتربين من رجال أعمال وغيرهم في تنمية الاستثمار الاقتصادي في المدينة قال نجا: "ان ابناء المدينة المنتشرين في أكثر من بقعة في العالم لاقوا نجاحا كبيرا في شتى الميادين الاستثمارية، فقد حاول البعض في محاولات خجولة أن يوظف بعض رأس ماله في ميادين بامكانها أن تدر عليه ربحا وأن يوظف بعض العاطلين عن العمل ما يخفف نسبة البطالة، فكانت النتيجة خسارة، وكان من الطبيعي لمن رأى هذا المشهد أن ينكفىء عن الاستثمار في ميدان قد سبق لغيره أن أخفق فيه".
وتابع: "رأس المال عموما جبان وخائف، ولا يمكن أن تطلب من الفرد أن يضحي بماله في وقت تقف فيه الدولة وتشاهد دون أي مساعدة على انكسار كل معالم الاقتصاد في لبنان عموما وطرابلس خصوصا".
وأضاف نجا: "الفيحاء عاصمة ثانية للبنان فقط عندما يريدون أن يشحنوها مذهبيا وانتخابيا، اما قيمتها عندهم فلا تساوي خسارة بسيطة في مجال الاستثمار. نعم، الفيحاء جوعوها وأفقروها وساقوها الى صناديق الاقتراع حيث أصبح كل صوت مدفوع سلفا قبل الاقتراع، وهكذا اقفلت المصانع وتوقفت الحرف وبارت التجارة وأصبحت طرابلس قرية صغيرة مكتظة بالسكان ولهذا صنفت أفقر مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط وفق تقارير الأمم المتحدة ووزارة الشؤون الاجتماعية في لبنان. واذا سألنا كيف تصل المدينة الى هكذا نتيجة والمدينة في عصرها الحديث، وشهدت وصول بعض أبنائها من أغنياء العالم الى مراكز الحكم، فالجواب يكون أنه في مناخ الفقر، يساق المرء قسرا حيث لا يريد، وأنه اذا شبع استعاد وعيه وعرف كيف يختار".
وعن دور المسؤولين السياسيين في الفيحاء قال نجا: "خلاف السياسيين ظاهره وفاق وباطنه نفاق، فالمنافسة الحديثة العهد الباطنية، جعلت كل مسؤول يحضر مشاريع على الورق، ويوهم المواطنين أنه سيعمل على تنفيذها، فجميعنا يعلم أن المشاريع تكتب وتتلف ثم تنسى".
وختم مؤكدا "أننا في أشد الحاجة اليوم لاعادة ألق المدينة عن طريق تفعيل المعرض وتشغيل المرفأ والعمل بالمصفاة التي أصبحت حاجة ملحة. ففي غياب الدولة، وشلل المؤسسات المؤدي الى خوف المستثمرين، وضعت طرابلس في بحر هائج تسير في قدرة مولاها، وعين الله ترعاها".
المقداد
محمد سليم المقداد رجل أعمال ومستثمر في قطاع الخدمات، وفي معرض جوابه على سؤالنا له عن واقع الاستثمار في طرابلس وعن تجربته الشخصية في الاستثمار في مجال الخدمات قال: "أنا نادم بعد 10 سنوات على المشروع الذي أطلقته في قطاع الخدمات، في مدينة لا تشجع على الاستثمار اطلاقا، وذلك لغياب الدولة ومؤسساتها عن حماية المستثمرين وتأمين السياسات الكفيلة لاستمرارهم، أيضا لإرتفاع كلفة الانتاج التي تتخطى وبكثير قدرة المستثمر على الاستمرار والصمود في المنافسة مع آخرين، وطبعا مع ما يتقدمه ويتبعه من فساد في الادارات الحكومية ذات الصلة التي تشجع المستثمر على الهروب بدلا من الاستثمار".
وأضاف: "أنا مستعد لأستثمر أكثر لو تيقنت أن الدولة تهتم بإنماء طرابلس بتخصيصها بمشاريع اقتصادية لأنه من وجهة نظري، الحكومات المتعاقبة بعد الطائف حتى فترة قريبة لم تهتم سوى بالعاصمة وكأنها هي كل لبنان".
وأشار الى ان "المركزية الادارية لمدينة بيروت لها تأثير كبير على هروب رؤوس الأموال لما فيه من هدر للوقت وجهد اضافي لا يضفي أي نتيجة مضافة". وقال: "لا أذيع سرا حسب اعتقادي ان قلت أن هناك قرارا سياسيا قد اتخذه القيمون والمتعاقبون على الحكومات، والذين لا يريدون النمو والازدهار لطرابلس، يمنعها من النهوض ثم من الاستقرار وذلك لما له تأثير سلبي على العاصمة بيروت".
وتابع: "أنا أدفع كل ما يتوجب علي من ضرائب ورسوم ولا ألقى من الدولة سوى الاهمال! أنا شخصيا لا أنصح أي مستثمر أن يقدم على الاستثمار في المدينة لأنه سيندم بما سيلقاه من معاملة غير لائقة ومن عدم تشجيع ودعم من الدولة، وسياستها الخاطئة التي أوصلتنا الى هذه النتيجة. فهل يعقل لطرابلس بما تمثله حاضرا وماضيا أن تصبح مثالا للفقر والحرمان؟".
الشعراني
محمد الشعراني، المقاول والمستثمر في مجال العقارات، قال: "أنا اشجع الاستثمار عموما في طرابلس في أي مجال لأنه لدي ثقة بأن المدينة لا بد لها وأن تعود الى سابق عهدها، مزدهرة ومستقرة".
وأضاف: "أنا كمستثمر في مجال العقارات أرى أن في هذا المجال الضمان والأمان لأموالي الموظفة ولكرامتي وعائلتي. ففي هكذا مجال، لا أتعامل مع الدوائر الحكومية وكذلك مع اليد العاملة الا فيما ندر، ولكنني متحفظ على الواقع الاستثماري في طرابلس اليوم، لأنه يتأثر مباشرة بالوضع الأمني والسياسي غير المستقر. وأنني اتفهم رجال الأعمال في خوفهم على أعمالهم وأموالهم. وهنا اود أن اشكر كل رجال الأعمال الذين وظفوا رساميلهم في المدينة، لأنه وبصراحة لا توجد حتى الماضي القريب أية قوانين حقيقية وحتى دولة ساهرة وقادرة على حماية الرساميل. بل على العكس، ما يلقاه المستثمر من سوء المعاملة، وعدم تشجيع وفساد في الادارات، وروتين وهدر للطاقات، يدفعه الى أن ينأى بنفسه وبأمواله عن القيام بواجبه تجاه المواطنين وتجاه المدينة".
وختم الشعراني بالقول: "لا بد من لفتة حكومية لطرابلس وتخصيصها بمشاريع حكومية تشجع المستثمر على توظيف أمواله، فالأخير ينتظر أن تدعوه الدولة عبر تشجيعها له ومنحه بعض الضمانات والتسهيلات حتى يقدم ويتجرأ على القيام بواجبه من ضمانات أمنية قانونية وتسهيلات اقتصادية ومالية".
الشامي اشعر بأنني وحيد فالدولة غائبة والمستثمرون غائبون ولا أحد يسأل!
وسألنا السيد حسان الشامي، وهو مواطن يحلم بمستقبل له ولأسرته في مدينته، عن قراءته للوضع الاستثماري في طرابلس، علما أنه صاحب محل لبيع الهواتف المحمولة، فقال: "لن ألوم الدولة الدولة وحدها على الوضع الاقتصادي السيئ في طرابلس، كما أنني لا أعفيها من مسؤوليتها وتقاعسها وغيابها، ولكنني أوجه لوما بكل محبة الى رجال المال والأعمال من أبناء المدينة، وهم على كثرتهم لا يقومون بأي اجراء لتحسين الوضع الاقتصادي السيئ والمتجه نحو الأسوأ، وكذلك الى المسؤولين المتمولين لأنهم لا يقومون بأي مبادرات فردية لانقاذ ما يمكن انقاذه، وقد خبرناهم جيدا، فلم نسمع منهم إلا التصريحات والوعود التي مللناها".
وأضاف: "إذا قرر رجال الأعمال، وأفضل أن اسميهم الاقطاعيين الجدد، توظيف رساميل صغيرة في كل ميادين الاقتصاد، فإنهم سيساعدون على توظيف العاطلين عن العمل، وسيعملون على تحريك الجمود الاقتصادي. فغياب الدولة، وغياب المستثمرين وفرص العمل، فتح الباب واسعا أمام المصارف التجارية لتلعب هذا الدور ولكن بطريقة احتكارية جنونية، فأصبحت كل المدينة حجرا وبشرا رهنا لأمر المصارف".
وأنهى الشامي كلامه: "طرابلس مدينتنا تستحق من الدولة المزيد من الاهتمام لأنها كانت غائبة عنها بالكامل، وأيضا تستحق من أبنائها ان يتعاونوا في ما بينهم، ومع الدولة لاخراج المدينة من هذا الواقع السيئ، ونحن اليوم نستبشر خيرا مع تشكيل الحكومة الجديدة ولا سيما أن خمسة من أعضائها هم من أبناء المدينة الذين وعدونا بإيجاد حلول للمشاكل المستعصية وبإطلاق مشروع الانماء في المدينة التي حرمت منه على مر عقدين من الزمن".
الحليمي
السيد أحمد الحليمي (تاجر طرابلسي) قال: "أرى أن هناك قرارا سياسيا منذ زمن بإهمال طرابلس والتخلي عنها وحرمانها حصتها الانمائية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وهذا هو السبب الرئيس وراء هروب رؤوس الأموال عن طرابلس وتفضيل الاستثمار في بيروت مثلا.
أصبحت ظروف الاستثمار في طرابلس شبه معدومة، وذلك لعدم وجود دعم حكومي للمستثمرين. وهنا أقول إن هناك حربا اقتصادية على طرابلس منذ سعديات الرئيس كميل شمعون الذي أراد انشاء المعرض الدولي في السعديات، وحينها ثبت الشهيد رشيد كرامي أحقية معرض طرابلس الدولي، واستمرت هذه الحرب بعد الطائف حتى وصلنا الى يومنا هذا".
وأضاف: "هناك صيف وشتاء تحت سقف الوطن الواحد، سياسة جعلت من الفساد قانونا ومن الباطل حقا، والدولة بفضل القيمين عليها أصبحت دولة المحاصصات والمحسوبيات. أصبح تنفيذ القانون وجهة نظر، والخروج عنه قانون. أنا لا ألوم الدولة كمؤسسات بل أضع اللوم على الاقطاعيين الذين توالوا عليها وانتهجوا هذا الأسلوب في التعاطي".
وختم الحليمي: "نتمنى أن يأتي يوم على طرابلس لا نرى فيه اقطاعيين همهم الوحيد تكديس الثروات، ونتمنى أيضا أن نرى رجال أعمال المدينة، يقومون بمشاريع اقتصادية لا تبغي الربح بقدر ما هي لتوظيف العاطلين عن العمل وتحريك الوضع الاقتصادي. ونأمل على وزرائنا في الحكومة أن يضعوا طرابلس نصب أعينهم ولهم منا كل الدعم".