تحقيق ليلى دندشي
لا تخلو كتابات الرحالة من عرب ومسلمين ومستشرقين أجانب، ممن زاروا طرابلس على مر العهود السابقة، من الإشارة إلى زراعة أشجار التوت وإنتشارها بكثافة في السهول المحيطة بالمدينة وفي الحدائق الملحقة بمنازلها، وتاليا إزدهار تربية دودة القز وصناعة الحرير.
وبالطبع كانت صناعة الحرير والمتاجرة به بين طرابلس وبقية المناطق والأقطار الأخرى، شرقا وغربا، من المسلمات على لسان الرحالة والمستشرقين الذين زاروا المدينة وحلوا فيها وأجمعوا على الإشادة بجودة هذه الصناعة، ما أسهم في تطوير المدينة منذ إعادة بنائها على أيدي المماليك.
ومما لا شك فيه أن تربية دودة القز وصناعة الحرير في طرابلس كانت معروفة من جميع التجار الجوالين على "طريق الحرير" الممتد من أوروبا إلى الشرق الأقصى مرورا بولايات المشرق العربي ومدنه الساحلية والداخلية، وطرابلس القائمة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط كما حلب والموصل وسواهما في الداخل، كانت محطة رئيسة على طريق الحرير.
موقع خان الحرير
الكتابات الكثيرة التي خلفها المستشرقون والرحالة عن طرابلس، والدراسات الأثرية القديمة منها والحديثة، والتي تمحورت حول الكشف عن معالم المدينة وتاريخها الحضاري والعمراني والأثري، تلتقي جميعها عند نقطة مهمة هي غياب اي إشارة إلى مكان وجود هذه الصناعة على غرار التسميات الموجودة في باقي المدن العربية الواقعة على طريق الحرير، حيث "خان الحرير" فهو مكان معلوم ومحدد.
فهل كان خان الحرير في طرابلس موجودا أم لا؟ وإذا كان الجواب إيجابا، وهذا مرجح، فأين كان موقعه؟.
يقول الكاتب صفوح منجد في مؤلفه "شيء من الصحافة شيء من طرابلس" والصادر في العام 2004 :"ان الإجابة الشافية عن هذا السؤال تتطلب وقفة تأملية عند الخانات القديمة في طرابلس والتي ما تزال قائمة في غالبيتها، وتحتفظ بالكثير من طابعها التاريخي والأثري والعمراني، ففي المدينة خان الصابون وخان الخياطين وخان الشاويش وخان المصريين وهي جميعها تعود إلى العهد المملوكي بينما خان العسكر يعود بناؤه إلى العهد العثماني، وهذه الخانات ما زالت قائمة داخل المدينة القديمة، وهي جميعها بإستثناء خان الخياطين، تتميز ببنائها المربع الشكل وتتوسط فناءها الداخلي بركة ماء، وهذا الشكل لا يتناسب مع متطلبات صناعة الحرير وحياكته، وفق الطرق التقليدية القديمة وبواسطة المغازل اليدوية، الأمر الذي يستوجب وجود مساحة طويلة لغزل الخيوط وشدها، إضافة إلى وجوب توفر النشاف والجفاف في أرضية الفناء،الأمر الذي لا يمكن تحقيقه في حال وجود برك كما هو الحال في بقية الخانات المذكورة".
ومن المعروف أن تسمية خان الخياطين هي تسمية حديثة لا تعود إلى أكثر من نيف وقرن من الزمن، للدلالة على فئة معينة من الحرفيين الذين استوطنوا بمتاجرهم على جانبي الخان، فيما الإسم الحقيقي القديم الذي رافق نشأة المدينة منذ حوالي ثمانية قرون، هو بالطبع "خان الحرير"، ما يتطلب معاودة النظر في التسمية الحالية لما للتسمية القديمة من دلالات تتناول النشأة الأولى للمدينة ومواقعها وتطورها ومرافقها.
زراعات مزدهرة
إن زراعة التوت وتربية دودة القز في طرابلس وردت في نص تم الإطلاع عليه حديثا، وهو يعود إلى منتصف القرن السابع عشر، في مذكرات للرحالة الفرنسي لوران دارفيو الذي زار طرابلس في إطار جولة سياحية له شملت في حينه المدن الساحلية لشرق المتوسط.
وقد جمع هذه المذكرات الدكتور أنطوان عبد النور ونشرها بالفرنسية بعد أن وضع لها مقدمة وزودها بملاحظات، وقام بترجمة المقاطع التي تخص مدينة طرابلس المدير السابق للمركز الثقافي البلدي في طرابلس سعيد السيد.
وتكمن أهمية هذا النص في أن الرحالة دارفيو قام برحلته بين العامين 1668 و1670، ولم يكن قد مضى على بسط النفوذ العثماني على المنطقة إلا زهاء قرن ونيف، فمشاهداته إذا أقرب إلى الفترة المملوكية للمدينة قبل أن تطولها اللمسات العثمانية.
المدينة القديمة
وجولة دارفيو هذه تبدأ بالمدينة القديمة عند الساحل حيث كانت قائمة خلال العهد الصليبي (اي الميناء حاليا ) ودمرها المماليك واستخدموا حجارتها في بناء طرابلس الرابضة عند السفح الغربي لقلعتها.
ويبدأ رحالتنا حديثه عن مرفأ طرابلس طالما أنه المكان الأول الذي وطأته قدماه عند بداية جولته، فيقول: "هذا المرفأ كان في الماضي مميزا جدا وهو الآن مسدود بالرمال بحيث لا تستطيع دخوله سوى المراكب الصغيرة، أما المراكب الكبيرة وسفن الإفرنج التي كانت تأتي للتحميل منه فإنها ترسو في عرض البحر بحماية بعض الصخور التي ترد عنها رياح الشمال، وعلى الشاطىء أبراج صغيرة بداخلها أشخاص يراقبون ما يجري في البحر ويتبادلون المعلومات بالإشارات مع الحاميات العسكرية الموجودة بالقرب منها".
توت أبيض وعنب ورمان
ويضيف مشيرا إلى المزروعات في طرابلس ومنها التوت الأبيض فيقول: "بالإنتقال من الميناء إلى المدينة يوجد سهل طوله نحو ربع فرسخ، جهته اليسرى تستخدم كمرعى فيه أعداد كبيرة من الجواميس الضخمة والعجول والأبقار ( وصف لم يأت على ذكره أي من الرحالة في الفترة نفسها)، أما جهته اليمنى فكلها بساتين فيها أشجار التوت الابيض لتغذية دودة القز، وأشجار المشمش والليمون الحامض والتين والرمان والعنب وكل أنواع الزهور، والأراضي خصبة جدا ومروية جيدا بسواق تتدفق شلالات من الجبال والتلال المجاورة، حتى يبدو ذلك كأنه جنة على الأرض".
ويبدي دهشته حيال النظافة التي وجدها في أحياء المدينة ومنازلها، وأيضا خلال زيارته المولوية حيث يتعبد الدراويش، وهذا ملمح لم يسبق لأحد من الرحالة أن ذكره، ويعلق عليه ناشر الكتاب الدكتور عبد النور قائلا: "إن هذا الإطراء من قبل لوران دارفيو والذي هو عادة كثير الإزدراء، يكتسب أهمية بالغة".
نظافة وطراوة وشرفات
ويتابع دارفيو مشاهداته فيقول: "البيوت جميلة، مريحة، وحسنة البناء، غالبيتها تتمتع بمآخذ للمياه في الغرف، وفي الطوابق الأرضية توجد نوافير للمياه وهذا ما يجعلها أكثر طراوة أو إنتعاشا ولكن في الوقت نفسه أكثر رطوبة وملاءمة للصحة، ولكل البيوت حدائق ولكل منها سطحيات أو شرفات، وهناك مساجد جميلة، وحمامات عامة رائعة، وأسواق مغطاة بأقبية من الحجر المصقول، وخانات تذكر بخان صيدا ولكنها أكثر جوالا وأكثر نظافة واضاءة أفضل".
ويقول: "إن سكان طرابلس شرفاء جدا، يمتازون بالنظافة، أغنياء، تبدو عليهم سمات أهل المدن، يوجد كثير من الأتراك والمسيحيين وعدد قليل من المغاربة وعدد أقل من اليهود، وهذا غريب لأن اليهود يحبون كثيرا المدن التجارية، حتى ولو لم يكونوا محبوبين فيها، يداهنونها قدر إستطاعتهم، فالربح يقودهم في كل الإتجاهات .هذه المدينة، التجارة فيها مزدهرة والبضائع المصرية موجودة فيها بوفرة، وتجارة الحرير فيها بالغة الأهمية وهي من خامات البلد، وكون خيوط الحرير فيها أكثر قوة من بقية أماكن الساحل، لذلك تستخدم لأشغال الذهب والفضة، إلى ذلك نجد الرماد الذي يشحن إلى مرسيليا والبندقية لصناعة الزجاج والصابون، والعنب الجاف (الزبيب) الذي يأتي من بعلبك، اضافة إلى السجاد والانسجة المحلية من الحرير والقطن والصوف، ما يجذب الفرنسيين والإنكليز والهولنديين والبنادقة الذين يأتون إلى المدينة ويعقدون فيها صفقات مهمة".
تكية الدراويش
على أن أهم ما جاء على لسان دارفيو هو ذكر تلك الزيارة التي قام بها إلى تكية الدراويش ( المولوية) التي ما تزال قائمة حتى اليوم، وإن أصابها تلف كثير وقد أعيد ترميمها مؤخرا، عند السفح الشمالي الشرقي للقلعة، وحضوره طقسا كاملا للفتلة المولوية، فيقول: "على بعد نحو ربع فرسخ من المدينة ناحية الشرق، توجد تكية للدراويش كبيرة وجميلة، ولقد بنيت على منحدر الجبل ويجري النهر عند أقدامها".
الفتلة المولوية
يصف دارفيو هؤلاء الدراويش الذين يعيشون على طريقة (مولانا) أحد أئمتهم، بانهم جميعا في لباس موحد من القماش الجميل والبسيط، يعتمرون بدل العمامة، قبعة من اللباد الأبيض، وهي الجزء الأساسي من لباسهم والعلامة الفارقة للمؤسسة أي "الطريقة" التي ينتمون إليها.
إنهم مخيرون بين البقاء في التكية يحصلون على الغذاء ويتحادثون، وبين الذهاب إلى المدينة والعيش في منازلهم، ولكن عليهم التواجد جميعا في التكية صبيحة كل يوم جمعة.
مسجد التكية ألحقت به أروقة مقنطرة، في هذه الأروقة مجموعة من السبل أو مجاري المياه، وحوض من الحجر حيث يتوضأ الدراويش قبل دخولهم المسجد. يبدأون صلاتهم الطويلة في الساعة العاشرة صباحا، وعندما ينتهون ، يصعد (الدادا) أو الرئيس بواسطة سلم من خمس درجات إلى منصة يؤطرها "درابزين"، يجلس عليها على طريقة الخياطين في بلادنا، يفتح القرآن بإحترام وتواضع بالغين ويقرأ مقطعا من سطرين أو ثلاثة يشكل مقدمة للخطبة التي سيلقيها، بعد ذلك يقبل المصحف، ثم يطبقه ويضعه على رأسه، ويظل حاملا له أثناء الشرح الذي يقدمه .. جميع الدراويش يجلسون ركوعا ويشكلون نصف دائرة حول الرئيس، وذلك وفق ترتيب الأقدمية، عيونهم إلى الأرض لا يديرون رؤوسهم، لا يبصقون أو يتمخطون أبدا كأنهم تماثيل، وعلى هذه الحال يستمعون بإنتباه بالغ إلى المديح الذي يوجهه الرئيس إلى حضرة الرسول، ومهما كان الخطاب طويلا لا يتحرك أحدهم أو تغمض عينه.
تنتهي الخطبة فينهض الجميع في وقت واحد، بوقار وتواضع ودائما عيونهم إلى الأرض، ويبدأون بالدوران تارة على كعب وتارة على الآخر، وذلك بسرعة تجعل رؤوس الناس الآخرين تدور، أما هم فقد تمرسوا على ذلك من صغرهم.
يستمرون بالدوران المرهق ما يقرب الساعة، وعندما تتوقف النايات والمزاهر بإشارة من الرئيس، ينزل هذا الأخير بوقار حاملا المصحف بين يديه ويبدأ بالدوران كما فعل الآخرون، ولكن لا يصحبه أحد، ثم يشكلون حوله دائرة وهم وقوفا، العيون نحو الأرض والأيدي ممدودة إلى الأطراف، وبعد أن يدور لمدة تساوي المدة التي دار فيها الدراويش، يومىء بإشارة فتتوقف الآلات فورا، ويجلس على بساط ويبدأ المريدون الجدد بتقبيل يده بإحترام بالغ، عندها تنتهي المناسبة.
يختم دارفيو: "الرئيس الذي سلمت عليه قبل إبتداء المناسبة كان أجلسني في مكان ملائم لأتمكن من رؤية وسماع كل شيء، قادنا إلى بهو فائق النظافة، وقدمت لنا القهوة والعصير، وبعد أن قمنا بجولة في كل انحاء التكية، ودعنا الرئيس، وعبرنا عن إعجابنا بهذه التكية، فلم يكن هناك أنظف من غرفها وممراتها وشرفاتها، ولم يكن هناك أنظف من أوانيها وينابيعها المتدفقة وحماماتها، خصوصا جمال المنظر الذي تشرف عليه".