تحقيق ليلى دندشي
عندما بنى المماليك مدينة طرابلس، وهي ثاني أكبر المدن المملوكية بعد القاهرة، لم يدر في خلدهم أن "فيحاء" شرقي المتوسط والتي ستبقى لأجيال طويلة، ستنهار بأسواقها وحاراتها وأحيائها الشعبية، خلال سنوات قليلة، نتيجة الإهمال وعدم الإهتمام والعشوائية، التي أفرغت المدينة التاريخية والتراثية من مضامينها الحضارية، فاختلط "الحابل بالنابل" وحلت الفوضى مكان التنظيم والتناسق والترتيب وحسن توزيع الأسواق التجارية والحارات السكنية، والتخصصية التي نشأت للمرة الأولى على أيدي المماليك في مطلع القرن الرابع عشر، بحيث لا يطغى سوق على سوق، ولا مهنة على مهنة أخرى، فلكل موقعه وإختصاصه في مجال عمله، هنا سوق للنحاسين وهناك آخر لبيع القماش (البازركان )، وخان للخياطين وآخر للصابون أو للصباغ، وهنا مكان مختص لبيع اللحوم وبجواره دكاكين للخضار والفاكهة، وبعيد عن كل ذلك هناك حارات للفحامين والحدادين والدباغين والمبيضين ..
واسطة العقد بين القلعة والساحة
هكذا بنيت أسواق طرابلس التاريخية والتراثية والتخصصية من الجنوب إلى الشمال على إمتداد شبه تام، من بوابة الحدادين إلى بوابة التبانة بطول يقارب 2 كلم، و"واسطة العقد" لهذه الأسواق والحارات هو سوق العطارين الذي يطل على البوابة الشرقية للمسجد المنصوري الكبير، وفي ذلك حكمة ودراية من البناة الأول فالاسواق القريبة من المسجد تم تخصيصها لبيع السلع والحاجات التي تتمتع بالنظافة والجمال، فأحيط المسجد بالعطارة والبازركان وسوق الذهب.
سوق العطارين يخترق أقدم حارتين في طرابلس، فضفته الشرقية تحمل إسم المهاترة وهي تتدرج صعودا إلى تلة أبي سمراء حيث القلعة،أما الضفة الغربية فقد دعيت ب"حي النوري" التي تمتد وصولا إلى المنطقة الحديثة التي تم إستحداثها منذ أواخر القرن التاسع عشر وعرفت بساحة التل.
بيوت عربية وتوت ونخيل
ويكاد سوق العطارين يمتاز عن بقية أسواق المدينة بالمباني السكنية المطلة بصورة مباشرة على السوق وفعالياته اليومية من بيع وشراء وخلاف ذلك. وعرفت هذه المباني السكنية بالمساحات المكشوفة الملحقة بها ودائما تتوسطها برك الماء، وتتوزع عند جوانبها أشجار الفاكهة من ليمون وزفير وتوت وأحيانا شجيرات للكرمة ولا تغيب عنها أشجار النخيل.
على طريق الحرير والتوابل
ومن الطبيعي أن يكون التجار الأساسيون في هذا السوق من العطارين، فمن حرفة العطارة إكتسب السوق إسمه وشهرته، فقد إنتشرت دكاكين هؤلاء على جانبي السوق متجاورة أحيانا أو متباعدة، حتى بلغ عددها أحيانا أكثر من 14 دكانا للعطارة، في حين تنوعت بقية المحلات والدكاكين بين حوانيت لبيع الأقمشة والألبسة، وأخرى لبيع السمانة وبعض الحلاقين والمكتبات، إضافة إلى بضعة دكاكين لبيع الحصر وكراسي القش.
وإزدهار سوق العطارين تأتى من كون طرابلس مدينة تتوسط "طريق الحرير" التي ربطت عبر مرفئها بين الشرق والغرب، وفيها حطت القوافل تنقل التوابل والبهارات من أقصى الشرق في طريقها إلى أوروبا، فازدحم سوق العطارين بهذه البضائع إضافة إلى أنواع عديدة من الأعشاب والأزهار التي غالبا ما تم إستخدامها في علاج الأمراض المختلفة التي كانت معروفة آنذاك، فكنت ترى المرأة والرجل والشاب والكهل عند أبواب دكاكين العطارة كل يسأل صاحب الحانوت عن "دواء "لوضعه الصحي، وكان العطار "يسترسل" في أسئلته عن حالة المريض؟ ومم يشكو؟ وبماذا يشعر؟ لكي يصف الدواء الصحيح، وهو عبارة عن عشبة أو مزيج من الأعشاب، ويشرح للزبون طريقة إستعمالها، وكان العطارون يتباهون بكونهم "أطباء" المدينة، وقد برع منهم الكثيرون.
عطور وقوارير.. وهمسات مع العطار الحكيم
هذا الواقع أضفى على السوق طابعا خاصا، فأجواؤه كانت تعبق، ليلا ونهارا بالروائح الشديدة والخفيفة الناتجة عن الأعشاب المكدسة في "الشوالات" ومن التوابل والبهارات التي تتواجد داخل أوعية زجاجية وقوارير من أحجام مختلفة، ودائما كل قارورة تحمل إسما ما بداخلها.
واتصف العطار أيضا بصناعة العطور التي تقصدها النسوة وتجربها بواسطة نقطة تضعها على معصمها، بحيث تحتار الزبونة أي عطر تختار فتتابع عملية الشم متنقلة بأنفها بين النقاط المتعددة على معصمها أو كفها.
والزائر لهذا السوق غالبا ما كان يسمع هذا العطار أو ذاك يخاطب الزبون "خذ هذا الدواء وإشربه على الريق، فإذا لم ينفعك فلن يضرك " وكم سمع العطار من زبون يقترب منه ويسأله همسا "بيني وبينك في عندك شي للتقوية والشدشدة؟" فيجيبه " أكيد .. أكيد.. خذ هذه العشبة وإمضغها في المساء.. أو خذ هذه النبتة إغلها وإشرب ماءها قبل النوم".
وإشتهر العطار أيضا ببيع "حجر الترابة" للنساء الحوامل أثناء الوحام.
سوق لتبادل الكتب المدرسية
من لا يتذكر سوق العطارين من الطرابلسيين والشماليين عندما كانوا يقصدونه في أوائل العام الدراسي وقبل إفتتاح المدارس، للتزود بالكتب والقرطاسية وشرائها لأطفالهم من المكتبات المتواجدة في السوق، أو من البسطات التي كان يقيمها الطلبة في وسط السوق أو بجانب الدكاكين، فيتاجرون بالكتب القديمة، بيعا وشراء، ليكسبوا ربحا قليلا يستثمرونه في مجال تأمين كتبهم وحاجات إخوتهم على أبواب العام الدراسي الجديد، هذه البسطات كانت رائجة في سوق العطارين ولا سيما أن الكتب المدرسية لم تكن تتبدل من عام إلى آخر، ولم تكن المدارس لتقدم على تبديلها، فدون ذلك عقبات وصعوبات.
حسن الملاح وشعاراته
هناك في وسط السوق وعند الدرج المؤدي إلى القلعة، كان دكان حسن الملاح "إنسكلوبيديا عصره" و"أبو الطلبة" بدون منازع، كان يشتري الكتب القديمة من التلاميذ وذويهم ويعرضها للبيع إلى جانب القصص والروايات وسائر المطبوعات ودون ترتيب أو تنسيق، يعرضها كوما كوما، على الأرض والطاولات، والسعر موحد وللعموم، بربع ليرة أو نصفها بعملة ذلك الزمن، وغالبا ما يكون السعر مرتبطا بحجم الكتاب أو الرواية.
وعند مدخل دكان حسن الملاح يطالع الزائر إلى سوق العطارين شعارات ويافطات من الكرتون المقوى، كتب عليها بخط اليد دعوات إلى زوال الإستعمار، ولا يفرق الملاح بين القوى الإستعمارية، فهمه الإنسان وتقدمه العلمي والثقافي.
سوق المظاهرات والمسيرات
وإشتهر سوق العطارين بأنه "المنفذ" الشعبي للمتظاهرين الذين كانوا يتخذون من الباحة الداخلية للمسجد المنصوري الكبير مقرا للاعتصام ومنطلقا للتظاهر، وخصوصا في خمسينات وستينات القرن الماضي.
وغالبا ما كان الطلبة والقوى الحزبية العمود الفقري لهذه التظاهرات، وكانوا يفضلون الخروج من البوابة الشرقية للمسجد المطلة على سوق العطارين ومن هناك كانوا ينطلقون في التظاهرة التي كانت تتضخم شيئا فشيئا كلما إخترقت أسواق المدينة، بإنضمام الطلاب والشبان والأهالي، قبل أن تصل إلى غايتها في ساحة التل عبر منطقة "السرايا القديمة".
بإنتظار إعادة السوق إلى رونقه
سوق العطارين هذا ماذا تبقى منه؟ لا شيء! فالعطارون هجروا السوق بأجمعهم، بإستثناء عطار واحد أو إثنين ما زالا يكافحان للابقاء على مهنتهم في سوقها، فالأحداث المتتالية التي عصفت بالمدينة غيرت معالم الأسواق القديمة والتراثية في المدينة، وسوق العطارين الذي شهد في السنوات الأخيرة "تهجير دكاكين العطارة، شهد غزوا لباعة اللحوم والأسماك والخضار وإنتشرت بسطات هؤلاء على الأرصفة الضيقة وفي وسط الطريق، وبين أرجل المارة يتم تنظيف الأسماك أو "نتف ريش الفراريج"، وتعرض لحوم الأغنام والعجول بشكل مكشوف، لتختلط بقاياها بالخضار التالفة.
لقد قيل الكثير عن إعادة تنظيم المدينة القديمة في طرابلس والحفاظ على تراثها وقيمها وجمالية اسواقها وحاراتها، وبعض المشاريع المتعلقة بهذا الواقع قد تم تنفيذها، ولكن سوق العطارين يحتاج إلى خطة إنقاذية سريعة تعيد إليه بهاءه وتعيد أسواق المدينة إلى رونقها الذي عرفته على إمتداد قرون وعصور طويلة".
"سوق العطارين" يكاد يفقد اسمه.