تحقيق أحمد منصور
يكتسب دير المخلص في بلدة جون في منطقة إقليم الخروب الجنوبية أهمية كبرى يتعدى فيها حدود الزمان والمكان، بعدما أضحى مكانا للتلاقي وجمع أبناء المنطقة والوطن بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، المسيحية والإسلامية، فكان أن جسد الوحدة اللبنانية والبعد الوطني والتلاحم الانساني عبر التاريخ بكل معنى الكلمة، ورسم الصورة الحقيقية لهذا الصرح العامر، متخطيا الأبعاد الدينية التي قام من أجلها. وها هو اليوم يشمخ عند الطرف الشرقي من البلدة على رابية خضراء من أراضي الرهبانية المخلصية التي تعود ملكيتها الى طائفة الروم الكاثوليك، والتي اتخذت منه مركزا للرهبانية منذ تأسيسه، وكان موطئ قدم لكل رجل دين كاثوليكي في لبنان والمنطقة العربية.
وقد توجت الرهبانية المخلصية أخيرا احتفالاتها بمناسبة اليوبيل المئوي الثالث (1711 -2011) لتأسيس الدير، عبر احتفال رسمي جامع لمختلف الطوائف والشخصيات أقيم الشهر الماضي، برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وحضوره.
ونظرا الى المكانة التي يحظى بها الدير لدى جميع العائلات الروحية، وعلى الرغم من الرمز الديني وما يمثله، تحول ملجأ ومقصدا لمختلف أبناء الوطن في زمن الحرب والسلم على امتداد تاريخه، إذ عايش العديد من النكبات والحروب والأحداث والأزمات التي عصفت بمنطقتنا العربية ولبنان. وها هي أروقته ومخطوطاته القيمة والعديدة إلى جانب أيقوناته وقناطره وزخرفته وحجارته شاهدة على التاريخ والتراث اللبناني العريق، والذي حوله الى معلم تاريخي ومحج ديني وسياحي، فباتت تقصده الوفود المحلية والعربية والاجنبية من أقطار العالم للصلاة والتضرع والإطلاع على عظمته ودوره التاريخي عبر العصور.
ويشير الرئيس العام للرهبانية المخلصية الأرشمندريت جان فرج إلى أن تاريخ الدير إبتدأ بأعجوبة حصلت سنة 1711 على يد مؤسس الرهبانية الباسيلية المخلصية المطران أفتيميوس الصيفي.
ويضيف: "لقد أراده المؤسس في منطقة ذات طابع خاص بين الشوف والجنوب، وأصر على أن يتفاعل رهبانه مع محيطهم المختلط والغني، فأصبح بيت الجميع، وبيت اللقاء، ومحطة لكل عابر سبيل، حاملا رسالة المحبة وناشرا روح الإلفة والعيش المشترك. ونسج الدير أجمل العلاقات مع أمراء الجبل وشيوخ صيدا وجون وجبل عامل، وإمتد دوره إلى كل لبنان وإلى خارجه، إلى فلسطين وسوريا والأردن ومصر وبلاد المهجر الواسعة".
ويتابع: "لقد عاش الدير رسالته بإشعاع روحي، فاستقطب المصلين من مناطق عدة حول كهنة امتلأوا من روح الله، من بينهم وعلى رأسهم المكرم الأب بشارة أبو مراد المخلصي، المدفون في كنيسة الدير، حيث أصبح ضريحه محجا للتبرك ومنارة مشعة".
ويلقت فرج الى أن الدير يمد كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك بـ9 بطاركة و53 مطرانا، ونحو 1040 كاهنا.
ويؤكد أن النائب وليد جنبلاط "أدى دورا أساسيا في المحافظة على أرزاق الدير وموجوداته خلال أحداث عام 1985، علما أن العلاقة مع آل جنبلاط تاريخية وتعود الى أكثر من 300 سنة، منذ تأسيس الدير وما قبله من خلال الصداقة والعلاقة الطيبة التي كانت تجمع في تلك الفترة بين المطران الصيفي والأمراء والشيخ قبلان القاضي وعلي بك جنبلاط".
ويشير الى أن المطران الصيفي إستطاع من خلال هذه العلاقة بناء الدير بعد شراء أرض الدير من آل جنبلاط والقاضي في ذلك الوقت.
ويشدد فرج على "أن الدير هو للجميع ولمحيطه الإسلامي والمسيحي والدرذي، وهو ملجأ للجميع في النكبات، وقد لجأ اليه في الحرب العالمية الأولى الناس بسبب المجاعة، فاستلف الأموال لتأمين الطعام لهم، وبقي يسدد الديون التي استلفها حتى عام 1960".
ويلفت الى أنه لجأ اليه الكثير من المواطنين من مختلف الطوائف والمذاهب ولا سيما في نكبة 1948 وأحداث لبنان والاجتياح الإسرائيلي وآخرها عدوان تموز سنة 2006.
من جهته، يرى إمام بلدة جون الشيخ خضر عيد "أن الدير وما يضم من مدرسة وكنيسة وملاعب هو صرح ومؤسسة يلتقي فيها المسلم والمسيحي على مقاعد الدراسة ويبنيان الصداقات والعلاقات الإجتماعية"، ويشير إلى "أن التواصل يتعزز من خلال حركة الانفتاح من قبل القيمين على الدير في مختلف المراحل، ولا سيما تجاه بلدة جون، حيث كان أبناء البلدة يقصدون الدير لتأمين مياه الشرب لوجود نبع فيه".
ويؤكد أنه "مؤسسة تفاعلية إجتماعية وثقافية مع محيطه في كل المجالات التي يمكن أن تطور المجتمع في اتجاه التلاقي والتفاعل الايجابي".
ويشدد عيد على "أن جون تتعاطى بشكل ايجابي وبشكل دائم مع الدير، الذي لم يكن لديه خلال الاحداث مشكلة أو عداء او نفور من أحد"، ويقول: "في الحرب لعب العامل السياسي دوره ولم يكن الدير هدفا، بل ان الحرب أخذت بعدها الطائفي البغيض، فبات كل شيء ينتمي الى أي مذهب او طائفة عرضة، ولكن الدير لم يكن في يوم من الايام عرضة للمخاطر، وان تفاعله الاجتماعي على مر التاريخ ومنذ تأسيسه والى لحظات الحرب ساهم في عدم تعرضه لنكسات تعرضت لها أديرة أخرى من هدم وغيره".
أما رئيس إتحاد بلديات إقليم الخروب الجنوبي ورئيس بلدية جون انطوان فواز فيؤكد أن الدير "بات رمزا للتعايش والوحدة في المنطقة، ويمثل فئة كبيرة على المستوى الوطني وليس على مستوى الطائفة الكاثوليكية أو أبناء الشوف فقط"، ويضيف: "إنه صرح جامع لكل اللبنانين بمختلف انتماءاتهم الدينية، وقد مارس هذا الدور عبر التاريخ، إذ إن أجدادنا يشهدون على ذلك".