تحقيق: عبيدة محروم ونظيرة فرنسيس
السجن "تأهيل واصلاح"، هذا ما هو متعارف عليه، أو بالاحرى، ما يجب أن يكون، ولكن السجون في دول العالم الثالث هي للأسف، مكان للافساد والتخريب وعدم الاصلاح بخاصة في السجون اللبنانية: أماكن لا تراعى فيها أدنى مستويات حقوق الانسان مما يجعل ذاك القابع بين جدرانها أسير الحقد والضغينة، ينتظر الفرصة السانحة للانتقام ممن حوله ليكون انسانا عدوانيا وعدائيا ضد نفسه أولا، فبدلا من أن يخرج متصالحا مع نفسه وينظر للحياة نظرة جديدة، متسلحا بمهنة أو حرفة تساعده على مواجهة الحياة، يخرج أكثر نقمة و حقدا. فبدلا من أن نضيء له شمعة تنير دربه، ندفعه والحال هذه ليلعن الظلام من جديد.
السجون اللبنانية بحالتها الراهنة، تنظيما وواقعا، بحاجة لإعادة نظر شاملة وجذرية، نظرا لحال التردي التي تعانيها في مختلف المجالات. وقد عقد العديد من المؤتمرات المحلية والدولية، وضعت بنتيجتها دراسات، واتخذت مقررات توصي بوضع نظام جديد للسجون في لبنان يراعي النظريات الحديثة للعلم الجنائي والهادفة الى تطبيق العقوبة العادلة والضرورية لردع الإجرام وإصلاح مرتكب الجريمة من خلال الأخذ في الإعتبار شخصيته الإجتماعية والإقتصادية والثقافية وظروف إرتكابه الجريمة وتوفير التلازم بين العقوبة المقضي بها والتنفيذ من خلال منح سلطة كافية للقضاء لتكييف العقوبة، وتيسير الوسائل والسبل المناسبة في مكان تنفيذها لإصلاح السجين وإعادة تأهيله تمهيدا لعودة اندماجه في المجتمع عوضا عن الإقتصاص منه والقضاء عليه معنويا وجسديا.
إستند الباحثون في هذا الحقل والساعون لتحقيق هذه الوجهة الى جملة من الشرائع الدولية والمواثيق، من بينها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966 والإتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملات القاسية واللاإنسانية والمهينة 1984 ومبادىء الأمم المتحدة بشأن استقلال السلطة القضائية 1985 وبشأن دور المحامين 1990 ووضع مبادىء وقواعد اعتبرت معايير للمحاكمة العادلة. وربما أخيرا وليس آخرا، اعتماد الدليل لتفعيل القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، المقرر من قبل المجلس الإقتصادي والإجتماعي عام 1984 بناء على توصيات الأمم المتحدة ، واللجنة الدولية لمنع الجريمة ومكافحتها. ولحين أن يتحقق كل ذلك تحركت بعض الجمعيات الاهلية لان الوضع لا يمكنه الانتظار ويجب أن يخطو أحد الخطوة الاولى.
وفي هذا الإطار، تلقي "الوكالة الوطنية للاعلام" الضوء على سجون النساء في لبنان ودور الجمعيات الاهلية فيها، ولا سيما سجن بعبدا المركزي الذي يضم أكبر عدد من السجينات إلى جانب سجون زحلة، طرابلس وسجن بربر الخازن في بيروت.
هدى قرى
وتحدثت المنسقة العامة في "جمعية دار الامل" هدى قرى عن تاريخ السجن النسائي في قضاء بعبدا وتقول :" كان سجن بعبدا للنساء عبارة عن مستوصف صغير تابع لمستشفى بعبدا الحكومي لا يحتوي على ادنى مقومات الحياة الاساسية ان لجهة الغرف وإن لجهة الحمامات أو المطبخ. وعندما دخلنا السجن، كجمعية خيرية، للمرة الأولى في العام 1996، كان بحال مزرية ويعج بالسجينات اللواتي بادرن الى مواجهتنا، ومنعننا من الدخول اذ اعتبرن اننا أتينا للتفرج على حالهن المثيرة للشفقة. تأثرت كثيرا من وضععن وتوجهت مباشرة الى معهد الدراسات النسائية في الجامعة الاميركية وطلبت المساعدة لتأمين الوسائل المناسبة كبداية لرفع السجينات عن الارض وتزويدهن بالكراسي البلاستيكية والطاولات وفرش النوم والاغطية ومواد التنظيف والخزائن لوضع الاطعمة".
وأضافت:"هكذا بدأ عملنا بتحسين سجن نساء بعبدا المركزي، وقد واجهتنا مشكلة ادارية مع وزارة الصحة لأن المستوصف الذي خصص كسجن تابع للوزارة والسجن تابع لوزارة الداخلية. وقد جهدنا مدة سنة كاملة لنحصل على اذن نتمكن من خلاله من الترميم، وبعد اتصالنا بمؤسسة الوليد بن طلال الانسانية الخيرية وافقت مشكورة على المساهمة في تمويل مشروع اعادة التأهيل. وفي هذا الاطار لا بد من شكر الى المديرية العامة لقوى الامن الداخلي التي ساهمت في نقل السجينات الى سجن في منطقة عاليه خلال العام 2006 اي في خلال حرب تموز، وبدأت ورشة العمل الجدية من بناء غرف وتجهيزها الى تحديث مطبخ وحمامات وغرفة للنزهة تدخلها اشعة الشمس وتطل على البحر".
البشر بعد الحجر
وتابعت قرى: "بدأنا المرحلة الأصعب وهي تأهيل البشر وهذا ما تهدف اليه جمعية دار الامل التي تأسست في العام 1970 وهي جمعية لبنانية تطوعية غايتها استقبال فتيات ونساء وقعن ضحايا الاستغلال او العنف او هن في نزاع مع القانون وتقبلهن وترافقتهن من خلال تأمين الشروط الانسانية الضرورية لتغيير نمط حياتهن ما يمكنهن من اعادة صياغة الروابط الاجتماعية واستعادة كرامتهن وايجاد معنى لحياتهن من خلال اعادة تأهيلهن ودمجهن في المجتمع".
ووقالت:"ان الجمعية الى جانب عملها في سجن بعبدا، تعمل كذلك في سجني طرابلس وزحلة في اطار مشروع اعادة التأهيل والاندماج الاجتماعي في سجون النساء في لبنان، الذي يختص بتمكين السجينات وتنمية قدراتهن والحفاظ على الرعاية الصحية والنفسية لهن وتأمين مستلزماتهن الاساسية وتحضيرهن لاعادة الاندماج في المجتمع بعد خروجهن من السجن. في العام 2008، ونظرا للحاجة الماسة لمساعدة السجينات اللواتي ليس لديهن اي دخل وليس في استطاعتهن توكيل محام ودفع نفقات الملف القضائي، اطلقت دار الامل بالشراكة مع مؤسسة "دروسوس" مشروع مساندة قانونية لمساعدة السجينات وسائر المستفيدات من مراكز الجمعية اللواتي يعانين من مشاكل تحتاج الى محام مثل الطلاق، حضانة اطفال، تثبيت زواج وتسجيل اطفال الخ، كما تمكن هذا المشروع من ان يساعد في تسريع اصدار الاحكام، وتخفيف مدة التوقيف، تغطية اتعاب المحامين، دفع كفالات واخلاءات سبيل، كما يؤمن من خلال المحامين حلقات توعية قانونية لجميع المستفيدين على حقوقهم وواجباتهم وذلك بالتعاون مع مجموعة من المحامين من المعونة القضائية لنقابة المحامين".
اهداف التأهيل
وعن اهداف المشروع، قالت:"يهدف الى تحسين الظروف الحياتية في داخل السجن من خلال تأمين متطلبات الحياة اليومية الضرورية، تحسين الاوضاع الاجتماعية للسجينات من خلال المتابعة الفردية عبر الاستماع الى مشاكلهن ومساعدتهن على حلها واعادة التواصل مع الاهل وتحسين العلاقة معهم، تحسين الاوضاع الصحية الجسدية والنفسية للسجينات من خلال تأمين اطباء مختصين الى تأمين معالجة نفسية وتأمين الادوية اللازمة، تحسين الاوضاع القانونية من خلال توفير محاكمة عادلة وتسريع الاجراءات القضائية وتوكيل محامين عند الحاجة، تقديم تقارير اجتماعية عن حال كل سجينة الى القاضي عند الحاجة، تقديم طلبات اخلاء سبيل، دفع كفالات، تمكين السجينات من خلال اخضاعهن الى دورات تدريب مهني متنوعة تكسبهن مهارات تساعدهن على كسب العيش داخل السجن وبعد خروجهن منه وتأمين اشغال مدرة للدخل، اتاحة المجال للسجينات بتحسين مستواهن التربوي والثقافي من خلال دورات محو أمية ولغات اجنبية ومن دورات مهارات مهنية حياتية ضرورية ومساعدة السجينات على الاندماج الاجتماعي بعد خروجهن من السجن كالخياطة، التطريز، تزيين الحلى وشك الخرز".
الجنسيات
وعن الجنسيات، أكدت أن "جنسيات السجينات تتنوع في مختلف سجون النساء في لبنان. فالى جانب اللبنانيات هناكمنهن من: كازاخستان، الكاميرون، ساحل العاج، مصر، تركيا، نيبال، مدغشقر، الصومال، العراق، السعودية، مكتومات القيد، اوكرانيا، فنزويللا، بنغلادش، سريلانكا، فيليبين، اثيوبيا وسوريا".
انواع التهم
وقالت:"تتنوع التهم الموجهة الى السجينات بين المخدرات، السرقة، التزوير، الدعارة، التسبب بحريق، الزنى، شيك بلا رصيد، كتم معلومات، الاحتيال، مخالفة قرار قضائي، الاختلاس، حادث سير، القتل، الضرب والتهديد، النزاع مع قوى امنية والاقامة".
محاضرات وترفيه
ولفتت إلى "محاضرات تقام في السجن عن: السيدا، المخدرات، التغذية، العنف الاسري، سير الدعوى، حل النزاعات، التواصل، الارشاد الاجتماعي وقانون تخفيض العقوبات، إلى جانب الحفلات الترفيهية في مناسبات عدة مثل: نهاية السنة، عيد الام، افلام تثقيفية، حفل غداء، توزيع هدايا، وتخرج".
المشاريع المستقبلية
وحيت قرى "روح مؤسس الجمعية السفير الدكتور جوزف دوناتو الذي فقدناه العام الفائت والذي كان المثل الاعلى لفريق عمل الجمعية"، مؤكدة "السعي الى تحقيق احلام دوناتو ولا سيما مشروع اعادة تأهيل وتجهيز وبدء تشغيل مركز الايواء في الشويفات - العمروسية لاستقبال السجينات اللواتي يخرجن من السجن وتأمين المأوى والعمل لهن ومساعدة نساء وفتيات بحاجة ماسة لمأوى".
مركز الإيواء في الشويفات
وذكرت قرى آخر رسالة وجهها السفير دوناتو قائلا على لسان شاعر كبير " مهما طال الليل، ليل القلوب والابدان، يبذغ دائما في جوف الليل نافذة مضيئة"، فلنبق هذه النافذة مفتوحة الى ان يطلع الفجر، عند ذلك فقط، سنجعل الايام والمواسم تتناسب مع احلامنا وهذا هو الامل"، داعية كل من ترغب في مساندة طبية، نفسية، مهنية، اجتماعية او قانونية التوجه الى دار الامل سن الفيل - حرش تابت - ملك سمير غزال او الاتصال على الارقام الآتية: 241164/01 - 886860/03 - البريد الإلكتروني: daralamal@lynx.net.lb.
هدى طراف
وشرحت معلمة الخياطة في "دار الامل" هدى طراف نوعية عملها مع السجينات في سجن بعبدا، مؤكدة "فخرها بما تؤديه من عمل انساني يخدم المجتمع الذي ننتمي اليه وبخاصة الفتيات والنساء اللواتي يعشن ظروفا عائلية، اجتماعية واقتصادية صعبة".
وقالت:"نعمل مع الدار منذ 11 عاما ونيف وقد استهلت عملها في سجن نساء بعبدا عبر دورات تفصيل وخياطة ثم انتقلت الى التطريز وتزيين حلى ثم الى انتاج المناشف، الشراشف، الجزادين، العباءات واشغال حرفية متنوعة، كما يوجد كذلك دورات تصفيف شعر، تزيين نسائي وكمبيوتر..." أشغال يدوية
وتشير طراف الى أن "مدة كل دورة ستة أشهر، عتد نهايتها تحصل كل متدربة ناجحة على إفادة تساعدها على العمل بعد خروجها من السجن. كما ان الدار تدفع بدلا ماديا لكل عاملة بعد انتهاء عملها وحتى مرحلة التسويق، وبالتالي تتمكن كل مستفيدة من تأمين بعض حاجاتها الضرورية وحاجات اهلها او عائلتها".
سلام مغربي
وتابعت المساعدة الاجتماعية سلام مغربي في "برنامج اعادة التأهيل في سجن بعبدا" السجينات من النواحي النفسية، مشيرة الى أنه "من الطبيعي أن تصاب كل سجينة بالاحباط لدى دخولها الى السجن، كما أن كثيرات منهن يعانين من امراض مزمنة كامراض القلب، الكوليسترول، السكري وغيرها"، لافتة إلى أن "مريضات الاعصاب هن الاكثر، وهنا يأتي دور فريق عمل الجمعية وتعاونه مع المؤسسات الرسمية الخاصة والعامة على الصعيدين الدولي والمحلي ومع مؤسسات المجتمع المدني بهدف التعاون لتأمين الادوية وغيرها ولا سيما للواتي ليس لديهن أي أقارب او عائلات تهتم بهن".
شهادة حياة
وهنا شهادات حية من بعض السجينات:
- إسمي ن.، سجنت في سجن بعبدا نحو سبع سنوات وثلاثة اشهر، وذلك بعد اقترافي جريمة قتل من اعتدى علي أي أنها جريمة شرف، لكنني استفدت من هذه الفترة وتعلمت الخياطة والتفصيل وساعدت الكثيرات من زميلاتي، كما أنني كنت المسؤولة عن الاعمال المطبخية اذ انه من المسموح لنا ان نطهو في المطبخ المجهز بكل المعدات تقريبا، وانا مقتنعة بوضعي وخصوصا أن أهلي لم يتخلوا عني وساندوني في اوقاتي الصعبة. وكوني أعمل حاليا في الخياطة وأكسب أجري هو أمر جيد، لكنني أتوق الى الحياة العائلية وتربية الاولاد.
- إسمي م. ن، مواليد 1970، مطلقة، أوقفت في مخفر الوروار في تاريخ 22/12/2009 عندما كنت برفقة صديقتي التي تزور زوجها هناك. اتهمت بترويج المخدرات وتعاطيها، ولكنني لم أكن وقتها أعيش في لبنان، بل كنت وصلت اليه منذ أقل من شهر بهدف زيارة صديقتي ولا أهل لي هنا. أعيش حاليا فترة عصبية صعبة وخصوصاانني بريئة، ولا دخل لي بهذه التهمة.
-اسمي ماجدة، لبنانية من مواليد 1969، أرملة، لي ولدان، دخلت السجن في تاريخ 3/5/2006 بتهمة المشاركة في قتل زوجي بعدما عشت معه ظروفا قاسية جدا. أهلي فقراء، عشت مع والدي واخوتي وزوجة والدي الذين كانوا يعاملونني كخادمة في المنزل ويضربونني بعنف. تزوجت هربا من حالتي، لم تكن حياتي مع زوجي افضل فقد كان يعتدي علي ويضربني باستمرار، وبعد توقيفي لم يزرني احد ولكن وبمساعدة دار الامل تواصلت مع اولادي عبر الهاتف، كما ساعدتني خلال وجودي في السجن الاخصائية الاجتماعية والنفسية على تحمل الوضع واوكلوا محام للدفاع عني، كما انني شاركت بدورات عدة كالخياطة، التطريز، شك الخرز، يوغا، تزيين حلى، محو امية. خرجت من السجن بموجب اخلاء سبيل في تاريخ 15/7/2010 ولا زالت الجمعية تتابعني وأحضر جلساتي مع المحامي الموكل من قبل الجمعية والتي اشكرها واتمنى ان تبقى السند الدائم والداعم لكل امرأة محتاجة وضحية الاستغلال والعنف.
الأمل، كل الأمل في تحديث قوانين السجون في لبنان تماشيا مع التطورات العالمية والدولية لتأمين مستقبل واعد وزاهر وبخاصة أن لبنان قد ابرم العديد من المواثيق الدولية وأقر الفقرة "ب" من مقدمة الدستور 1990 أعلن فيها أنه "عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتجسد الدولة هذه المبادىء في جميع الحقوق والمجالات دون إستثناء".