بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى نظم الجيش الفرنسي في الدول الخاضعة لانتدابه وحدات من مختلف الأسلحة، فبرزت الحاجة إلى ضباط ومترجمين واختصاصيين وطنيين بهدف تشكيل ملاكات لهذه الوحدات وتحضيرها لتصبح مستقلة. تم إنشاء مدرسة حربية في دمشق عام 1921 لإعداد وتدريب وتخريج ضباط لزوم الوحدات الجديدة. بقيت المدرسة الحربية في دمشق حتى العام 1932 حيث انتقلت بعدها إلى حمص.
كان ملاك المدرسة في تلك الفترة يتألف من قائد المدرسة وهو ضابط فرنسي، مساعده وهو ضابط لبناني أو سوري، ضباط مدربو السنوات ومساعدوهم من الرتباء: لبنانيون، سوريون وفرنسيون. وكان يتم التحاق وتخريج التلامذة في خلال شهر تشرين الأول من كل عام.
وبعد فترة التدريب هذه، يتم تخريجهم وترقيتهم إلى رتبة ملازم بموجب مرسوم ويقام لهم احتفال على مستوى الدولة يترأسه غالبا رئيس الحكومة السورية، ويتسلم في خلاله الضباط المتخرجون شهادة آمر فصيلة في اختصاص (مشاة - خيالة - مدفعية - هندسة) أو شهادة كفاءة لرتبة ملازم. بعد التخرج يشكل الضباط المتخرجون بموجب مذكرة خدمة إلى مختلف وحدات الجيش، حيث يؤلفون فيها الملاكات اللازمة لأمرتها، ويسهرون على تدريبها وتنشأتها وقيادتها.
أما شروط الدخول إلى المدرسة الحربية في تلك الفترة فكانت كالآتي:
- أن يكون لبنانيا أو سوريا من أب لبناني أو سوري.
- أن يكون عمره ما بين 18 و 25 سنة في 31/12 لسنة الالتحاق (عازبا، مطلقا أو أرملا).
- أن يكون حائزا على شهادة البريفيه.
- أن ينجح في مباراة الدخول.
وفي 15 آب عام 1945 تم تسليم منشآت المدرسة الحربية في حمص إلى السلطات السورية، وانتقلت الوحدات اللبنانية والفرنسية إلى لبنان. التحق المدربون والتلامذة في ثكنة القبة في طرابلس ووضعوا إداريا في إحدى سرايا الكتيبة الثالثة المتمركزة هناك. ومنح التلامذة مأذونية لمدة 15 يوما وطلب إليهم الالتحاق بمخيم أقيم في بلدة كوسبا - قضاء الكورة في لبنان الشمالي.
في 25 أيلول انتقلت المدرسة إلى دير مار أنطونيوس في بعبدا، حيث بقيت لمدة سنة تقريبا. وفي 14 تشرين الثاني من العام 1946 انتقلت المدرسة من بعبدا وتمركزت في ثكنة شكري غانم في الفياضية وألحقت إداريا بمفرزة القيادة والإدارة.
وكانت الأبنية عبارة عن منشآت كان يستعملها الإنكليز قبل مغادرتهم لبنان. وبقيت المدرسة في موقعها هذا حتى يومنا هذا. وفي الحادي والثلاثين من كانون الأول سنة 1951 يوم ذكرى الجلاء، قام رئيس الجمهورية في حينه الشيخ بشارة الخوري بتدشين الأبنية الجديدة للمدرسة الحربية.
مباحثات تسلم القوات الخاصةالمفاوضات المعقدة
أدت صدمة 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943، إلى إذعان فرنسا للتحولات الدستورية، كما حددها البيان الوزاري للحكومة، وأقرها البرلمان اللبناني، في جلسته الشهيرة في 8 تشرين الثاني/نوفمبر. ولكن الطموح الفرنسي إلى عقد معاهدة مع الحكومة اللبنانية، أو تحصيل موافقتها على مشروع معاهدة، شأن معاهدة 1936، بحيث يبقى لفرنسا من خلالها، موقع ممتاز في الجمهورية اللبنانية، يسمح لقواتها بالبقاء في قواعد عسكرية على الأراضي اللبنانية.
وقد شكل هذا الطموح الفرنسي، خلفية اللقاءات والمداولات الرسمية اللاحقة بين فرنسا، من جهة، ولبنان وسوريا، من جهة ثانية، والتي كانت تبحث في آلية استرجاع المصالح المشتركة. ففي 22 كانون الأول/ديسمبر 1943، تم التوصل مع فرنسا، إلى اتفاقية حول تسليم هذه المصالح، إلى الحكومتين اللبنانية والسورية. فقد تم الإتفاق في تاريخ هذا اليوم (22 كانون الأول/ديسمبر)، بين الجنرال كاترو مفوض الحكومة الفرنسية، وبين ممثلي الحكومتين اللبنانية والسورية، على تسليم هاتين الحكومتين الصلاحيات التي تمارسها السلطات الفرنسية باسميهما. وستنقل بحسب هذا الاتفاق، المصالح المشتركة وموظفوها، إلى الدولتين اللبنانية والسورية، مع حق التشريع والإدارة، والأساليب المتعلقة بانتقال هذه الصلاحيات، ستكون موضوع اتفاقات خاصة. وكان الاتفاق بدون قيد أو شرط. وقد شكلت تلك الاتفاقية، مصدر تفاؤل في لبنان على صعيد نقل السلطات. لكن هذا التفاؤل، ما لبث أن تلاشى، بسبب رفض الجنرال كاترو، التخلي عن "القوات الخاصة". وكان تبرير فرنسا، وإصرارها على الاحتفاظ بالقوات الخاصة، يظهر جهارا بالقول "إنه يمثل السلاح الوحيد المتبقي لها من أجل الحصول على معاهدة مرضية". وكان هذا الأمر مبعث قلق في لبنان وسوريا. إذ من المؤكد أن الفرنسيين، سيكونون قادرين على خربطة الأمور، ما داموا يسيطرون على القوات الخاصة والأمن العام.
وفي موازاة هذا القلق، كان هناك قلق آخر: "أن تنسحب القوات البريطانية في نهاية الحرب لتحل محلها قوات فرنسية، الأمر الذي يمكن فرنسا من أن تفرض على لبنان وسوريا معاهدة تلحق الأذى باستقلالهما".
مفاوضات
استمرت المفاوضات أشهرا بعد ذلك، حتى منتصف 1944. واستمر ربط تسليم القوات الخاصة بتوقيع معاهدة، واستمر في الوقت عينه "رفض السياسيين المحليين قبول أي صلة بين مصير القوات الخاصة وإبرام المعاهدة التي تجنبوا أي التزام بشأنها".
وفي مرحلة من مراحل المفاوضات (آذار/مارس 1944)، اقترح الجنرال كاترو نفسه "أن يأخذ السوريون واللبنانيون الجنود المحليين العاملين تحت القيادة الفرنسية، على أن يصير التسليم بشروط يتفق عليها الطرفان، بدلا من أن ينشىء كل من سوريا ولبنان جيشا خاصا له، وقد بلغت المفاوضات نقطة وضعت فيها أسس اتفاق ما ارتضاه السوريون واللبنانيون، ولكنهم عادوا واصطدموا بتعليمات وردت من "لجنة الجزائر الوطنية الفرنسية".
ومع وصول اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، إلى باريس بقيادة الجنرال شارل ديغول،
واعتراف الحلفاء بها في تشرين الأول/أكتوبر 1944، وبسيطرتها على ممتلكاتها وراء البحار، عاد الجنرال شارل ديغول إلى إثارة مسألة المعاهدة مع كل من لبنان وسوريا، طالبا من بريطانيا الوفاء بتعهداتها، التي كانت قد قطعتها ل"لجنة التحرير الوطني" بتأييد هذه المطالب.
في المقابل، ظل الموقف اللبناني من المعاهدة، مستقرا ثابتا، بالرغم من جهود الحكومة البريطانية، بشخص الجنرال سبيرز، سفيرها في بيروت، في التوسط لدى الحكومة اللبنانية، فلقد كان الجواب الدائم "إن لبنان دولة مستقلة، وهو لا يرغب في عقد معاهدة مع أي دولة من الدول قبل انتهاء الحرب واجتماع مؤتمر الصلح، وبعدئذ يفتح باب البحث في المعاهدات التامة ومن دون أي مركز ممتاز".
وفي الطرف الفرنسي، كانت الأمور تدور كذلك حول محور متشدد، بخاصة وأن معظم المصالح المشتركة، كانت قد انتقلت إلى السلطتين اللبنانية والسورية. فلم يبق في أيدي الفرنسيين، غير القوات الخاصة وجيوش الشرق الخاصة، اللتين عقد الجنرال شارل ديغول العزم عليهما، للحصول على معاهدة، تتمكن فرنسا عبرها من تحصيل مركز ممتاز. ففي 6 تشرين الأول/اكتوبر، أعلن مجلس الوزراء الفرنسي، رفضه الاستجابة لطلب حكومتي بيروت ودمشق، تسليمهما القوات الخاصة، قبل موافقتهما على المعاهدتين المطلوبتين.
تسلم الحكومة وحدات من القناصة اللبنانية
اقتضت توازنات اللعبة السياسية الداخلية في لبنان، إجراء تعديل وزاري، بدا وكأنه جاء ترضية معنوية للفرنسيين. ما شجع فرنسا، في المباحثات المقترحة مع الحكومة اللبنانية، على توقيع بروتوكول في 15 حزيران/يونيو 1944، ينص على أن تضع السلطات الفرنسية، وحدات من القناصة اللبنانية، معززة بمفرزة من المصفحات، تحت تصرف الحكومة اللبنانية المباشر، على أن يجري استبدال هذه المجموعة، مرة كل أربعة أشهر. وقد جرى التسليم فعلا، في 17 حزيران/يونيو 1944، بحفلة عرض عسكري، أقيمت في الملعب البلدي في بيروت، وحضرها من الجانب اللبناني، رئيس الجمهورية والوزراء. ومن الجانب الفرنسي، المندوب العام القائد الأعلى لجيوش الشرق، الجنرال بينيه وأركان حربه. سلم في أثنائها رئيس الجمهورية، العلم اللبناني، إلى الزعيم فؤاد شهاب قائد اللواء الخامس الجبلي. فرفرف هذا العلم، لأول مرة بصورة رسمية، فوق رؤوس الجنود اللبنانيين، الذين كانوا يشكلون هذه المجموعة، وأصبح بمقدورهم أن يتفيأوا ظله طوال قيامهم بخدمة الحكومة اللبنانية. وقد شكلت هذه الوحدات اللبنة الأولى في بناء صرح الجيش اللبناني.
المطالبة الشعبية والبرلمانية بالجيش
الظاهرة الجديدة، اللافتة في الحركة الشعبية والسياسية الدائرة آنذاك، كانت في 29 كانون الثاني/يناير 1945، مع نزول طلاب لبنان إلى الشوارع، حاملين الإعلام، ومطالبين بتسلم الجيش، وجعله لبنانيا. وقد لاقت هذه الدعوة استجابة عامة، بخاصة، وأن اضرابا عاما قد أعلن عنه في بيروت، فتجمع المواطنون في شوارع المدينة وساحاتها، تحت شعار تسلم الجيش، والذي تداولوا أمره عبر عشرات الآلاف من المناشير. هذا نص أحدها: "نريد الجيش، يا طلبة لبنان، يا عماد لبنان، بالأمس في تشرين الثاني/نوفمبر ثارت الأمة لحقها المغتصب وكنتم في ثورتها صوت الحق ففازت الأمة وفزتم، واليوم يعود الصوت الحق فيدعوكم الى المطالبة بالجيش رمز كل استقلال وسياجه الوحيد، أضربوا، أظهروا للعالم نهار الإثنين أن الدماء التي غلت في تشرين لا تزال تجري حارة في العروق، سجلوا في التاريخ شهر كانون كما سجلتم قبل شهر تشرين، لا حرية ولا استقلال إلا بالجيش".
وبالفعل "استيقظت بيروت في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي على إضراب عام، وعلى الطلبة من كل المعاهد العلمية، يجتمعون في شارع بلس - قرب الجامعة الأميركية، ويسيرون إلى القصر الجمهوري في محلة القنطاري حيث وقفوا هناك وأنشدوا النشيد الوطني هاتفين للجيش. فأطل عليهم وزير الخارجية هنري فرعون، وقال مخاطبا:"إن الحكومة ستطالب بالجيش ولن يهدأ لها بال حتى يعود ضباطنا وجنودنا إلينا.إن الحكومة التي لي شرف تمثيلها، وضعت نصب أعينها تحقيق جميع مطالب البلاد الاستقلالية وعلى رأسها جيشنا الباسل".
تجاوبت المدن اللبنانية كافة، مع أجواء بيروت ومع تطلعاتها. وقد واكب البرلمان اللبناني هذه التحركات الشعبية. فعقد في اليوم التالي جلسات طارئة، كان محورها الجيش اللبناني وضرورة تسلمه. وتنقل "البشير" عن مداخلات لعادل عسيران وحبيب أبو شهلا والدكتور صراف، وأميل لحود والأمير مجيد أرسلان وجورج عقل والنائب محمد مصطفى وأديب الفرزلي وكمال جنبلاط، الذي تقدم باقتراح يطلب فيه من نواب المجلس المطالبة بالجيش. وكانت ختام المداخلات، كلمة لرئيس الحكومة، الرئيس عبد الحميد كرامي الذي قال: "إن كل دولة ليس لها جيش لا يكتب لها عيش..." وقد ذكر أنه رصد للجيش في الميزانية 5 ملايين ليرة، على أن يزاد المبلغ إذا دعت الحاجة".