تحقيق جوزف فرح
إذا كان الاقتصاد اللبناني قد نجا من تداعيات الازمة المالية العالمية نتيجة السياسة الحكيمة التي اعتمدها مصرف لبنان، إذ ارتفعت نسبة النمو الى 8 في المئة عام 2009، بينما كانت سلبية في أكثرية دول العالم، وانطبق عليه القول المأثور "رب ضارة نافعة"، ولا سيما في المؤشرات الايجابية لمختلف قطاعاته، خصوصا العقارية والسياحية والخدماتية، فإن المنحى الايجابي استمر عام 2010 نتيجة جملة عوامل إضافية، لعل أهمها استمرار الاستقرار السياسي والامني، وهو ما يعتبر العامل الاساسي في تحسين هذه المؤشرات الاقتصادية، والعامل المساعد لنمو الاستثمارات التي تعتبر لبنان ملاذها الآمن.
وقدرت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات حجم الاستثمارات الاجنبية المباشرة بنحو 4,8 مليارات دولار، أي بزيادة نسبتها 33,20 في المئة مقارنة بالعام 2008، لتبلغ أعلى مستوى لها على الاطلاق. وفي موازاة ذلك، باشرت حكومة الاتحاد الوطني التي تضم مختلف الاطراف السياسيين، ورشة إصلاحية لعل أهمها إصلاح الكهرباء والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتطبيق خطط مدروسة كخطة وزارة السياحة لتحسين أوضاع هذا القطاع.
عوامل عدة تسير بحركة سريعة، بينما يقف العالم مستغربا أمام التحولات الاقتصادية الايجابية التي تشهدها قطاعاته الاقتصادية، ويطرح أكثر من علامة استفهام حول الاسرار التي تبقي الاقتصاد الوطني متينا، فيما تتعرض دول قادرة، كاليونان واسبانيا وايرلندا وغيرها، لهزات اقتصادية كبرى. ويضرب هذا العالم أخماسا بأسداس وهو يراقب النمو المقبول في لبنان، والذي بلغت نسبته 8 في المئة عام 2009، وهناك من يتوقع أن تصبح 9 في المئة.
وبالعودة الى النشاط الاقتصادي، نلاحظ ارتفاعا مستمرا في احتياط مصرف لبنان، من 12 مليار دولار عام 2007 الى 25 مليارا في نهاية 2009، الى أكثر من 30 مليار دولار في نهاية تموز 2010، وسط توقعات أن يصل الرقم الى 32 مليار دولار في نهاية العام.
ويتوقع صندوق النقد الدولي نسبة نمو 6 في المئة سنة 2010 مقارنة بـ4,5 في المئة في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، و5 في المئة في اقتصادات دول المشرق، و6,3 في المئة في الاقتصادات الناشئة والنامية، و4,2 في الاقتصاد العالمي.
كما يتوقع ان يبلغ نمو اجمالي الناتج المحلي الحقيقي 4,5 في لبنان عام 2011، مقابل 4,8 في المئة في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، و5,4 في المئة في دول المشرق.
وقد حل لبنان مع قطر في خانة الاقتصادات الأسرع نموا في منطقة الشرق الاوسط، علما أن الصندوق السيادي للبنان يملك 11 مليارا احتياطا صافيا و11 مليارا ذهبا، أي أن هناك 22 مليارا توازي الدين المحرر بالعملات الاجنبية والاحتياط الاجمالي، وهذا الرقم يوازي 90 في المئة من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية.
يملك لبنان موارد عديدة ومتنوعة تجنبه الانحرافات المالية، في ظل وجود انتشار لبناني. ففي السنوات الثلاث الاخيرة، أي منذ نهاية عام 2006 الى آذار 2010، دخل الى لبنان 55 مليار دولار، هي حركة الرساميل الوافدة، مما ادى الى تحقيق فوائض متراكمة في ميزان المدفوعات بحدود 15 مليار دولار، وزادت قاعدة الودائع المحلية في المصارف اللبنانية 36 مليار دولار، مما يعني أن هناك زيادة بنسبة 60 في المئة، فيما غالبية دول العالم تشهد تراجعا في الودائع والموجودات لدى مصارفها، من جراء الخسائر المتراكمة والضغوط التي تعرضت لها.
والواقع أن لبنان يعيش اليوم فورة اقتصادية، حتى أن صندوق النقد الدولي، توقع نسبة النمو 8 في المئة سنة 2010، بعدما كان حددها ب6 في المئة.
ويعتبر الخبير المالي والمصرفي الدكتور فريدي باز، "أن نسبة النمو التي سجلت هي الاعلى في العالم، لكن هناك الكثير من نقاط الوهن ما زالت ما زالت ماثلة في الاقتصاد، أهمها أن مضامين العمالة في النمو ما زالت ضعيفة، والتقديمات الاجتماعية شبه مفقودة في الموازنة العامة".
ويشدد رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه على "أن العنصر الاهم في دورة الاقتصاد الوطني هو القطاع المصرفي اللبناني الذي يدير حاليا موجودات محلية تفوق 130 مليار دولار، وله وجود مباشر في 17 مدينة في العالم، وهو أحد أهم الجسور للتجدد الاقتصادي الخارجي على خطوط الرساميل والاستثمارات والائتمان والتمويل والانتشار".
وفي ما خص تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، فقد استمرت، وإن بوتيرة أقل من السابق.
وفي حين كانت المصارف الاجنبية والعربية تعاني تداعيات الازمة المالية العالمية، كانت المصارف اللبنانية تعيش فائض سيولة مكنها من تأمين ودائع وصلت الى 130 ملياردولار، وهو رقم لم يبلغه القطاع المصرفي اللبناني من قبل، كما ان هذه السيولة مكنت المصارف من إعطاء مزيد من التسليفات، خصوصا للقطاع الخاص، حيث زادت القروض خلال الأشهر الخمسة الماضية بنحو 3,1 مليارات دولار، أي بنسبة 10,8 في المئة، أو نحو 4 أضعاف متوسط النمو السنوي للقروض خلال السنوات الثماني الأخيرة، مع ارتفاع القروض المصرفية من 28,4 مليار دولار عام 2009 الى 31,4 مليارا دولار في أيار الماضي.
وتوزعت القروض الجديدة، ثلثها بالليرة والثلثان بالعملات الاجنبية، وتراجعت نسبة الدولرة من 67 الى 63 في المئة، مكرسة تحول جزء من الودائع من الدولار الى الليرة، خصوصا بعد التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان لدعم التسليف بالليرة.
القطاع السياحي
من الواضح أن القطاع السياحي في لبنان يعيش أفضل أيامه. وفي هذا السياق، أكد وزير السياحة فادي عبود أن عدد السياح سيتجاوز المليوني و200 ألف سائح سنة 2010، استنادا الى الأرقام الصادرة عن دائرة الاحصاء في وزارة السياحة، والتي تؤكد زيادة عدد السياح بنسبة 30 في المئة عن العام الماضي، كما أن المدخول السنوي من هذا القطاع سيتجاوز 8 مليارات دولار بعدا كان 7 مليارات و200 مليون دولار العام الماضي. ويتوقع المجلس العالمي للسياحة أن تسجل الصناعة السياحية نموا بنسبة 11,2 في المئة هذه السنة، وأن يصل عدد مستخدمي مطار رفيق الحريري الى أكثر من 6 ملايين مسافر، وهذا الرقم لم يعرفه المطار قبلا. وقد سجلت الارقام والاحصاءات الصادرة في المديرية العامة للطيران المدني زيادة تقارب 30 في المئة عن عام 2009.
هذا الاقبال السياحي مرده الى السياسة الجديدة التي يطبقها وزير السياحة، والتي ترتكز على اللامركزية السياحية في مختلف المناطق وعلى تنويع السياحة، بعدما كانت تتركز على موسم الاصطياف، بينما نلاحظ اليوم أن التركيز هو على الرحلات المنظمة التي كانت تشكل 3 في المئة فقط من المجموع العام، وعلى السياحة الاستشفائية والبيئية والثقافية والطبيعية وسياحة المؤتمرات، بحيث أصبح قطاع السياحة يشكل اليوم نحو 22 في المئة من الدخل القومي في لبنان.
وتزامنا، ازدهرت قطاعات الفنادق المطاعم والملاهي، وظهرت فنادق جديدة كالـ"فورسيزن" و"الفراي" وأكثر من 1500 مطعم جديد.
واستمر النشاط العقاري وحركة البناء في منحى تصاعدي، وسط ارتفاع اسعار العقارات والشقق السكنية. وساهم الهدوء السياسي منذ عام تقريبا في ارتفاع حجم المبيعات العقارية في الربع الاول من السنة بنسبة 41 في المئة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
أرقام قياسية
وسجلت المبيعات رقما قياسيا بلغ 3,2 تريليونات ليرة، أي 2,1 ملياري دولار وفق مديرية الشؤون العقارية التابعة لوزارة المال، وأتت معظم الطلبات على شراء العقارات من الخارج، من أفراد الجالية اللبنانية المنتشرة في دول عربية واوروبية وفي اميركا وافريقيا وغيرها، ومن زبائن من دول الخليج.
وشكل القطاع العقاري محركا لافتا للنمو الاقتصادي في لبنان، ولكن مع ارتفاعات سريعة في الاسعار وصلت الى مستويات قياسية جديدة.
ومن ناحية الطلب، تبين أن المبيعات العقارية نمت بمتوسط سنوي يقدر بنسبة 19,5 في المئة بين عامي 2004 و2009، وسجلت نموا أكثر من الضعف في الاشهر الخمسة الاولى من هذا العام. ومن ناحية العرض، ارتفعت رخص البناء بمتوسط سنوي نسبته 9,4 في المئة على مدى السنوات الخمس الماضية، وزادت بنسبة سنوية قدرها 53,7 في المئة في الاشهر الخمسة الاولى من العام الحالي.
ومع ارتفاع اسعار العقارات، اتسعت الهوة بين القوة الشرائية لدى اللبنانيين المقيمين وأسعار المساكن المتاحة في السوق عموما، مما يتسبب بمشكلة عند جزء كبير من اللبنانيين غير القادرين على تحمل التكاليف السكنية المستجدة. ومع بلوغ الاسعار مستويات قياسية في بيروت، يتجه الطلب نحو المساكن الأصغر حجما، وتحديدا في ضواحي العاصمة.
الزراعة والصناعة
وإذا كان قطاع الزراعة يشهد خللا، خصوصا في التصدير، فإن الصناعة سجلت نموا تجاوز ال 11 في المئة، وعادت الصادرات الصناعية الى تسجيل أرقام تجاوزت المليار دولار.
من جهة أخرى، ارتفع النشاط التجاري الخارجي في الاشهر الخمسة الاولى من العام الحالي، في ظل ارتفاع قيمة المستوردات، رغم تراجع سعر صرف الأورو الى أدنى مستوى، لكون غالبية مستوردات لبنان هي من أوروبا، مما يشير الى نمو في الطلب المحلي. وقد بلغ العجز التجاري ما مقداره 5 مليارات و404 ملايين دولار، أي بزيادة مقدارها 564 مليون دولار ونسبتها 11,6 في المئة، وكان العجز في الفترة نفسها من العام الماضي 4 مليارات و840 مليون دولار، علما أن زيادة العجز وصلت الى 44,5 في المئة خلال الربع الاول.
ووفقا لإحصاءات تجارة لبنان الخارجية، نجم هذا الارتفاع في العجز عن زيادة فاتورة الاستيراد من 6 مليارات و 279 مليون دولار حتى أيار 2009 الى 7 مليارات و132 مليونا للفترة نفسها من العام الماضي، بزيادة قدرها 853 مليون دولار، وما نسبته 13,6 في المئة.
أما الصادرات فسجلت ارتفاعا من مليار و439 مليون دولار نهاية أيار 2009 الى مليار و728 مليونا للفترة ذاتها في العام الحالي، أي بزيادة قدرها 289 مليون دولار او 20 في المئة.
ومن أبرز التطورات خلال الاشهر الخمسة الاولى من السنة، تقدم الصين على الولايات المتحدة، لتصبح الوجهة الاولى للاستيراد، وذلك نتيجة ارتفاع قيمة الدولار من جهة، وتوجه التجار الى الصين من جهة أخرى.
الى ذلك، فإن النتائج الاقتصادية الايجابية المحققة تنعكس انفراجا على الوضعين الاجتماعي والمعيشي، ولا سيما على الملفات الخدماتية الكبرى، كأزمة الكهرباء حيث استمر التقنين في معظم المناطق اللبنانية، والضمان الاجتماعي، وتوقف الضمان الاختياري، والصحة العامة، والخصخصة وتطبيق الاصلاحات الموعودة في مؤتمر باريس 2، وغيرها من الملفات، خصوصا بالنسبة الى استمرار الدين العام حيث يتوقع أن يصل في نهاية العام الحالي الى نحو 55 مليار دولار، في ظل ضبابية تطبيق الاصلاحات التي تؤدي الى خفض هذا العجز المستمر.
أرقام لم يعرفها لبنان سابقا، ودائع تجاوزت ال 130 مليار دولار، احتياط بالعملات الاجنبية تجاوز ال30 مليار دولار، استمرار التدفقات المالية، إنها ظاهرة يمكن قراءتها بوجهات متعددة، إيجابية أو سلبية. فالمال المكدس مكلف ويشكل عبئا يتجاوز اقتصاديا الكلفة المباشرة ليصيب بنيويا قاعدة التسعير وأكلاف الانتاج، ولذلك يصبح من الضروري توظيف هذه الاموال، لا عدها فقط. وفي هذا السيق، يبدي عدد من المسؤولين المصرفيين تخوفهم من أن تتحول السيولة الاضافية من نعمة لدى المصارف الى نقمة عليها.
إضافة الى ذلك، لدى لبنان موارد غير مستخدمة تتخطى حجم مديونيته، وهذا يعني انه يتمتع بوضع مريح، مع العلم أن مديونيته بالنسبة الى الناتج المحلي هي 150 في المئة، بينما اليونان التي هب العالم وأوروبا لنجدتها، فإن مديونيتها هي 120 في المئة.
والاعتبار الأهم في هذا الإطار يعود الى أن اليونان استخدمت كل مواردها ولم يعد لديها أي مخارج لمعالجة مديونيتها، لذلك فإن هذه المديونية تعتبر مؤذية ومقلقة للعالم، بينما نرى أن لبنان لم يستخدم كل موارده الموجودة، رغم أن مديونيته أكبر من مديونية اليونان، لذلك فإن مشكلة اليونان تتمثل في نسبة ملاءتها، بينما مشكلة لبنان هي في تأمين السيولة اللازمة لخدمة دينه، مما يؤدي الى استمرار العجز في الموازنة التي تضخم حجم الدين، وهذا ما يفضي الى تراكمه.
أي سر في هذا الاقتصاد الذي تشكل مديونيته 150 في المئة من الناتج المحلي ويصل دينه العام الى 55 مليار دولار والعجز في موازنته مستمرة؟ أي سر في اقتصاد يمشي على عكازين، القطاع المصرفي الذي يحظى بثقة الناس من لبنانيين وعرب، والقطاع العقاري الذي ترتفع اسعاره بنسبة تراوح بين 100 و200 وأحيانا كثيرة 300 في المئة، في الوقت الذي تسوده حالة من الجمود في العالم؟ أما القطاع السياحي فيشهد نموا سنويا بحدود 30 في المئة، وفي الوقت نفسه نرى أن القطاعات الاجتماعية والمعيشية في حالة من الانكماش والتراجع.
أسئلة كثيرة تطرح اليوم عن الاقتصاد اللبناني الذي يعيش فورة من دون أي خطط أو حلول، بل يمشي "على بركة الله"، مستعينا بما تيسر من ايجابيات ليوظفها في خدمته، رغم أن خدمة الدين تتآكل من ميزانيته سنويا.
وللسنة الثالثة، يستمر النمو الاقتصادي الى حدود 8 في المئة من دون معرفة أي خطة اقتصادية تطبق، فالاقتصاد اللبناني يعيش على ثقة يولدها أبناؤه في تعاملهم مع لبنان.