تحقيق: لميا شديد
وطنية - استعادت كنيسة مار سابا في بلدة إده البترون رونقها وجمالها ومشهد جدرانياتها التي قام المرمم فلاديمير سارابيانوف مع مجموعة من المحترفين الروس بترميمها خلال العامين 2012 و2013.
واحتفاء بإنجاز الأعمال احتفلت رعية مار سابا و"جمعية ترميم ودراسة جدرانيات كنائس لبنان في العصور الوسطى" بتدشين الأعمال التي مولتها "جمعية فيليب جبر".
لمحة تاريخية
شهد فن الجداريات في كنائس المنطقة، (سوريا ولبنان وفلسطين) أكبر ازدهار له في الفترة الصليبية، وقد تعود هذه الصور في معظمها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر على الاجمال. وتجدر الإشارة إلى أن فن الجداريات رغم توافره في الفترة الصليبية، كان متصلا ومتأثرا بالتراث البيزنطي.
تتميز كنائس لبنان بأحجامها المحدودة وبتصاميمها المؤلفة من صالة واحدة أو جناح واحد، ولكن ثمة كنائس تحتوي على تصميم بازيليكي أي تتألف من جناح وسطي ورواقيين جانبيين، فكنيسة مار سابا تنتمي إلى هذه العمارة. ويقترب هذا النموذج من التراث الرومانسكي الذي كان سائدا في أوروبا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر والذي وصل إلينا مع الصليبين.
إن فن جدرانيات المنتشر في منطقة جبل لبنان قد يتميز بتنوعه واختلافه على المستوى الأيقونوغرافي وكذلك على مستوى الأسلوب. وهذه الجداريات موجودة في كنائس تنتمي إلى مختلف الطوائف المسيحية التي سكنت آنذاك جبل لبنان من روم أرثوذكس وموارنة ويعاقبة.
وتتراوح أساليب الصور من الأسلوب ذي الطابع المحلي إلى الأسلوب ذي التأثير البيزنطي. فنجد في جدرانيات مار سابا كلا من هذين الأسلوبين.
كنيسة مار سابا
تشكل كنيسة مار سابا تصميما بازيلكيا مع حنية وسطية نصف دائرية ناتئة الى الخارج. الصحن الوسطي، الأكثر إرتفاعا من الأروقة الجانبية، ينفصل عنها بصف مزدوج من الأعمدة السميكة التي تحمل القناطر وتحدد ثلاث مسافات بين العارضتين.
تتميز مختلف تفرعات التصميم بحجمها، فالصحن الاساسي تعلوه ثلاث قبب معقودة ومعززة بدعامات مثبتة على الجزء الأعلى من الجدران الجانبية، واستخدام الدعامات هو خاصة تميز الهندسة المعمارية الصليبية وموجودة في مختلف الكنائس الصليبية الرومانسيكية على طول الساحل اللبناني، في حين لا نجدها أبدا في الكنائس التي تتبع التقليد المحلي.
تقنية بناء القبب المعقودة المشبهة لتلك الموجودة في كنيسة القديسة حنة في أورشليم تبدو ايضا من خصائص الهندسة المعمارية الصليبية.
جدران الكنيسة كانت كلها مغطاة بلوحات، لكن لم يتبق منها سوى بعض الاجزاء المبعثرة والمضروبة بالمطرقة. ومن الممكن التعرف على مرحلتين تاريخيتين للوحات الجدرانية، احداهما مرسومة في نهاية القرن الثاني عشر على الطراز البيزنطي والاخرى مرسومة في حوالى 1266.
مشهد رقاد العذراء
الى غرب الحائط الشمالي للكنيسة، نجد مشهد رقاد العذراء وهو يشكل من دون شك جزءا من الجدرانيات البيزنطية الطراز في الكنيسة و لم يبق سوى وجوه لبعض الرسل والأساقفة وجزء من المسيح يحمل روح أمه والملائكة بقربه. وتعرف كتابات بالأحرف السطرنجيلية عن كل من التلاميذ كما وهناك كتابة تقول "يعقوب أخو الرب".
يتميز الرسم في كنيسة مار سابا بشيء من الرقة والشفافية. صفات لم نجدها إلا في بيزنطيا. لم تعد الوجوه مبسطة على مثال صور كنيسة بحديدات أو معاد، بل كونتها بعض الظلال الخضراء التي تعطيها حجما معينا، كما تخضع الوجوه إلى خطوط منمنمة تزودها بنفس مأسوي ودينامي. وهذا الأسلوب يذكر بالنمط الذي كان سائدا في بيزنطيا منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر والذي تميز بخطوطه المضطربة ودينامية تآليفه وتعبيريته العميقة. وقد سمي هذا النمط الذي انتشر في جميع أنحاء العالم البيزنطي بـ "الحركتية الكومنينية المتاخرة" (maniérisme comnénien tardif ).( تطلق هذه التسمية نسبة لسلالة الأباطرة الكومنينوس الذين حكموا بيزنطيا في القرن الثاني عشر).
لاقى هذا الأسلوب الموجود في إده أصداء له في مجموعة كبيرة من الرسوم البيزنطية التي تعود إلى أواخر القرن الثاني عشر. وقد انتشر هذا النمط في جميع أنحاء العالم الأورثوذكسي وغير الأرثوذكسي في أوروبا ويمكن العثور على أصداء له في صقلية كما وصل حتى أطراف روسيا. ووجوه كنيسة إده لا تبتعد من حيث أدائها وقوة تعبيرها من ذاك الأسلوب الذي درج آنذاك في بيزنطيا والذي بلغ أبعد أطرافها. ولجداريات إده، برأي الخبراء والاخصائيين في علم الجدرانيات، صلة، بطريقة أو بأخرى، مع "الحركتية الكومنينية المتأخرة" التي ظهرت هنا بصيغتها المحلية. قد يكون دون شك، الرسام الذي صورها على معرفة بتلك النماذج البيزنطية.
مشهد الصلب
وفي كنيسة إده مشهد آخر لا يقل أهمية عن الأول هو صورة الصلب التي كانت، قبل عملية الترميم لم تظهر منها سوى صورة العذراء التي تبكي ابنها. أما باقي الوجوه فكانت ممحوة وغير مرئية. كشفت عملية الترميم عن صورة الصلب التي تجلت بكل روعتها. وتقول الدكتورة ندى الحلو "الوجوه هنا نبيلة، ورقيقة الملامح، حيث تبدو الظلال بوضوح ما يشدد على القوة التعبيرية. لهذا المشهد ارتباط وثيق مع الفن الذي كان سائدا في بيزنطيا في أواخر الثاني عشر - أوائل الثالث عشر. لذلك نستطيع أن ننسب جدرانيات كنيسة إده إلى أواخر الثاني عشر-أوائل الثالث عشر. وقد يعود تنفيذها إلى فنان بيزنطي. لكن يوجد على الحائط الجنوبي مشهد يصور العذراء والطفل وإلى اليسار جزء من حصان أبيض وفي الزاوية العليا للوحة نرى يدا ممدودة: قد يكون هذا الحصان لصاحبه مار جرجس الذي تباركه يد الله. لهذا المشهد أي العذراء ومار جرجس طابع محلي واضحا، يختلف كل الاختلاف عن المشهدين السابقين وهو أقرب إلى أسلوب بحديدات، حتى أننا نستطيع اعتبار كلا الجدرانيات من مصدر واحد قد يكون نفس المحترف أو حتى نفس الفنان. وهذه الصور الأخيرة تعود إلى النصف الثاني من القرن الثالث عشر."
نجد في كنيسة واحدة في لبنان أنماطا عدة، تختلف أحيانا حتى التناقض. وهذا ما يدل على تواجد مدراس مختلفة أو بالأحرى على محترفات فنية تعايشت في القرون الوسطى وربما تنافست في ما بينها. والوجود البيزنطي الملحوظ قد يعود إلى تواصل العلاقة مع الإمبراطورية المسيحية، واستمداد النماذج الفنية منها رغم البعد السياسي والفواصل الجغرافية والإدارية، ورغم الإنشقاقات والخلافات عند بعض فئات مسيحيي المشرق مع العاصمة. فظل هؤلاء يستوحون فنهم من المنبع الأساس. ومع هذا تغلب العناصر المحلية التي تطغي أحيانا والتي تدل على احتفاظ المسيحيين هنا بلغة فنية خاصة بهم، قد تعود جذورها إلى أوائل المسيحية، حيث شهدت المنطقة فترة من الازدهار.
==================