تحقيق رانيا الدويهي
وطنية - في الجهة الشمالية من جبل لبنان، مجموعة قرى يطلق عليها اسم "الزاوية"، من تلك القرى قرية اسمها "كفرزينا".
هي قرية هادئة، تاريخها قديم، تحيط بها العديد من البلديات مثل كفرشخنا وكفرياشيت وكفرحورا... والملفت ان جميعها تبدأ بكلمة "كفر".
نستطيع ان نصل الى هذه القرية عن طريق عام طرابلس - زغرتا - كفرحاتا - كفرزينا، او عن طريق عام أوتوستراد شكا - الكورة - كفرشخنا - كفرزينا. ترتفع عن سطح البحر حوالى 190 مترا وتبعد عن العاصمة بيروت حوالي 100 كلم وعن مركز محافظة الشمال حوالى 15 كلم.
مجلسها البلدي يتألف من تسعة أعضاء ولها مجلس اختياري، عدد سكانها يتجاوز الألف ومئتي نسمة بقليل وذلك حسب لوائح الشطب الإنتخابية، معظمهم من المهاجرين المنتشرين في مختلف القارات.
من عائلاتها: نادر، حرب، شلهوب، اللقيس، الحزوري، عطية، بركات، الزاعوق، السقلاوي، غانم، عبد، القسيس، الديك ....
يطل الداخل الى كفرزينا على مسافات جمة من بساتين الزيتون، فالعين لا تقع في تلك المناطق الا على لون ورق الزيتون الرمادي الحزين. كما يرتاح المرء الى مرأى اشجار السنديان المعمرة والبلوط اليانعة المتشابكة أغصانها بأشجار الكرمة، ووفرة النباتات الزاحفة و"المعربشة".
كفرزينا، اسمها سرياني، فكلمة "كفر" تعني القرية و "زينا" معناها السلاح والمجموع "قرية السلاح". ومن المعقول ان هذا الاسم كان يعني ميدانا لألعاب القوى المعروفة في الأجيال السابقة كالفروسية والقوس والنشاب، او مصنعا لصنع بعضها أو سوقا لبيعها..انما الأسطورة لها رأي آخر، وهي التي يرددها الشيوخ وكبار السن في القرية .. فيقولون بأن ضابطا تركيا مر بالمنطقة في قديم الزمان، فرأى شابة جميلة اسمها زينة، طلب يدها من أهلها فوعدوه خيرا شرط أن يلبي أمرين: الأول أن يترك دينه ويعتنق المسيحية والثاني أن يبني لها برجا يشبه برج أخت لها تزوجت في قرية مجاورة تدعى "بسبعل". أتم الضابط الشرطين كما تقول الأسطورة، عندها أسرع الأهالي الى الصبية زينة يبشرونها قائلين: كفرزينة، كفرزينة قاصدين بهذا الكلام أن الخطيب قد بنى البرج واعتنق دين الفتاة. تزوجت زينة الحبيب وسكنا البرج وأخذ الأهالي يبنون بيوتهم حوله، فكانت قرية جديدة دعيت "كفرزينة".
أما القرية القديمة والأساسية التي كان يسكنها الأهالي فتقول الحكاية بأنها كانت تسمى "درحللا" وكانت لها بوابة عظيمة من الحديد، تفتح صباحا وتغلق مساء..فكان أن ضرب المثل ببوابة "درحللا" التي كان صريرها عند فتحها واغلاقها يملأ أرجاء كل المنطقة.
وفي الصكوك القديمة لا أثر لكلمة "درحللا"، ولأول مرة ورد اسم "كفرزينا" كان في محضر انتخاب البطريرك سركيس الرزي من كفرحورا العام 1581 ، فالخوري سليمان خادم رعية كفرزينا كان من موقعي وثيقة الانتخاب، وهذا يدل على رفعة شأن كفرزينا كقرية مارونية مميزة وذلك بحكم جيرتها لقرية البطريرك المنتخب.
آثارها
في "كفرزينا" أربعة معابد أساسية هي: كنيسة القديسة مورا، دير مار جرس معصرتا، دير مار انطونيوس البادواني ودير مار قبريان.
1 ـ كنيسة القديسة مورا
هي شفيعة البلدة، تغيرت معالمها وتبدلت جيلا بعد جبل فهدمت وأعيد بناؤها أكثر من مرة وذلك تحت ضغط التزايد السكاني. جددت بعناية البطريرك يوحنا مخلوف عام 1633 وذلك حسب ما ذكر البطريرك الاهدني اسطفان الدويهي. كما تم توسيعها في اواخر الجيل التاسع عشر، والبناء الجديد تم بسعي من الخوري حنا السقلاوي العام 1952.
2 ـ دير مار انطانيوس البادواني
تم بناؤه قديما في العام 1789 ثم هدم وأعيد البناء عليه مجددا، شكل هذا الدير بساحته الواسعة والمزروعة بأشجار معمرة من السنديان والبلوط، مزارا مهما ومكانا مشهورا لإقامة الأعراس على مدى سنين طويلة ولا يزال. كما أن اليوم وبجانب الدير القديم والذي رمم أيضا مؤخرا، يتم بناء كنيسة ضخمة على الطراز الايطالي الحديث وهي أيضا للقديس البادواني.
3 ـ دير مار جرس معصرتا
أعيد بناؤه سنة 1925 بعناية الشدياق صليبا جبور سمعان من قرية أصنون المجاورة أما البناء القديم فلم يبق منه إلا الرواق الخارجي.
4ـ دير مار قبريان
هو دير مهدم نوعا ما، لكنه حافظ على مخططه وشكله الهندسي القديم وحجاراته الأصلية، حاول العديد من المهتمين أن يجددوا بناءه لكنه لم يحصل أي تجديد.
يعتبر دير مار قبريان من الجواهر الفريدة، فيبدو كأنه هو من حافظ على نفسه بنفسه على مر الأجيال، كما تم في مرحلة ما الإتصال بمديرية الآثار لتأخذ الترميم على عاتقها وبصورة علمية والمساعي ما زالت مستمرة في هذا الشأن. أما الدير القديم فتمتلىء جوانحه وجوانبه بالراحة والسكينة والخشوع ويستدعي الانتباه مظاهر العبادة فيه، كالشموع التي تراها في كل مكان.. والزوار يترددون ليس للنزهة والمتعة الفنية فحسب، بل لوضع نذورهم من الشموع والزيت في الهيكل، ومن الملفت أن هذا المعبد يحتل مكانة خاصة في قلوب أهل البلدة.
مدارسها
بنيت مدرسة كفرزينا الرسمية على مراحل ما قبل العام 1954، وعندما استلم إدارتها الاستاذ حميد شيحا في العام 1959 كانت تضم أقلية من التلاميذ وذلك لالتحاق الكثرة بمدرسة الراهبات الخاصة، لكنه نجح وبوجود المدرسين المحترمين بدفعها الى الأمام لتصبح مع الوقت والايام مدرسة رسمية على قدر المسؤولية والتطلعات للأهالي.
حتى العام 1954 كانت كفرزينا قرية هادئة لا يعكر صفوها أي شيء.. تغرق في النوم من المساء وحتى الفجر. بعيدة عن ضوضاء المدينة وضجيجها.. لكن الطبيعة لم تقتل طموح الانسان الكفرزيني فكان دائما يبحث عن الثقافة والعلم، ليكون دخول راهبات الناصرة الى البلدة بمثابة نقطة مضيئة في تاريخها.
عدد الراهبات في العام 1954 لم يتجاوز الخمسة، كن يشجعن الاهالي والشبان والشابات على العلم، فجعلن مركز المدرسة القديمة في معصرة تابعة للبطريركية لعدم توافر الأمكنة. إلى أن كان الخوري الفاضل الأب حنا السقلاوي والذي خدم الرعية حوالي 25 سنة متتالية، فكانت له الأيدي البيضاء في تشييد كنيسة جديدة وانشاء ناد للشبيبة والسعي لبناء مدرسة الراهبات بالتعاون والتنسيق مع الأم آنذاك ماري عواد، الأمر الذي دفع المسؤولين الى منحه وسام الاستحقاق اللبناني قلده إياه وزير التربية الراحل هنري طربيه في عهد الرئيس السايق سليمان فرنجية، لتصبح هذه المدرسة من الصروح العلمية الخاصة المهمة في قضاء زغرتا، وكان من الملفت أن تبلغ نسبة النجاح فيها في الشهادات الرسمية هذا العام درجة المئة في المئة ولمختلف الصفوف.
رجالاتها
أنجبت كفرزينا العديد من رجالات الفكر والدين والادب والمجتمع، مقيمين ومنتشرين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر:
الشاعر ألبير حرب
من مواليد العام 1933، شاعر نظم الشعر وهو في الثامنة من عمره، حائز على جائزة الشعر اللبناني 1979 ، له العديد من القصائد والكتب..كما أنتج عددا من البرامج التراثية عرضت على شاشة التلفزيون سابقا.
الأديب يوسف السقلاوي (1915 ـ 1958 )
انصرف الى التعليم في بداية شبابه، كان من أعز الأصدقاء للاديب الكبير مخائيل نعيمة، تبادل معه الرسائل الادبية وهو لا يزال في العشرين من عمره، كما كانت له لقاءات عدة معه للتباحث في العديد من الامور الأدبية. له الكثير من الكتب والمقالات، نشرت مقالاته بما فيها كتاب "الفجر" ورسائله وخواطره في مجلد واسع بإسم "غليان". مات بحادث قتل وهو في مقتبل العمر.
ولا ننسى الأب حنا السقلاوي الذي كان رمزا مشرقا لرعية تفانى في خدمتها بإخلاص سنين طويلة. ومن رجال الدين ايضا الأب جميل السقلاوي اللعازاري وهو شقيق الأب حنا.
زراعات كفرزينا
تشتهر كفرزينا أولا بزراعة الزيتون ومشتقاته، فهي تبدو كجزيرة تحيط بها غابة من أشجار الزيتون، وتنتشر فيها معاصر الزيتون بطريقة ملفتة والتى أضحت معاصر حديثة واوتوماتيكية. كما يلاحظ الزائر الأيادي الموسمية العاملة والتي تمتلىء فيها القرية خلال أيام القطاف. كذلك هناك صناعة وانتاج الصابون الفاخر.
وتشتهر كفرزينا بالاشجار المثمرة المتنوعة كالكرمة وشجر التين والرمان..
مياه الشفة تصل إليها من نبع القاضي ومن آبار ارتوازية عديدة إشتهر الاهالي بالعمل على حفرها ومنذ زمن، فكانت المقولة الشهيرة بأن القرية عائمة على بحر من المياه.
كفرزينا هي إحدى قرى منطقة الزاوية وقضاء زغرتا، وادعة وهادئة ولا تزال الى اليوم رغم التطور العمراني تكتسب نكهة ورائحة التاريخ العابق بالتقاليد والجذور القديمة كما لا تزال تقاوم حالات الهجرة الداخلية والخارجية رغم ان قسما مهما من أبنائها أصبح مترسخا في بلاد الاغتراب.
ويبقى الانسان الكفرزيني مثال الفرد المتعلق بأرضه والساعي دوما لتبقى قريته حالة خاصة ومساحة مميزة من مساحات قرانا الجميلة على امتداد هذا الجبل اللبناني العريق من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال.
========== ن.م