تحقيق فريد بو فرنسيس
وطنية - حتى الامس القريب، كانت الطاحونة الاثرية التابعة للرهبانية الانطونية االمارونية، لا تزال في الخدمة الفعلية، وكان الناس يتهافتون اليها لطحن محصولهم من القمح وتحويله الى برغل او طحين. الحجارة الكبيرة الضخمة كانت لا تزال تدور وتؤدي مهامها على اكمل وجه، مستمدة طاقتها من مياه نهر رشعين الهادر. في العام 1995 توقفت الحجارة عن الدوران، واقفلت ابواب الطاحونة امام روادها الى العام 2005 بعدما تبدلت وجهة استعمالها.
يخيفك المشهد كثيرا وانت تقف على جسر المرداشية الشهير عند مدخل مدينة زغرتا من الجهة الشمالية، فالاعشاب البرية نبتت في محيط بعض المقاهي الاثرية المشهورة التي ذاع صيتها في كل لبنان وقصدها العديد من المشاهير، فأضحت اليوم متروكة من مشغليها، وأصبحت عرضة للاندثار. وينسحب هذا الخوف عند محبي وعارفي الطاحونة الاثرية المجاورة ان يصيبها ما اصاب جيرانها من الاهمال فتتآكل الحجار الاثرية الضخمة بفعل الزمن، وتغطي الاعشاب البرية المشهد التاريخي لتلك الطاحونة، فتستقيل باكرا من عملها، وتتقاعد عن قصد او عن غير قصد، ليغمرها النسيان، ويحرم الكثير من عارفيها مشهدا نادرا لم يعد موجودا في هذه الايام.
إلا أن هذا الخوف بدده رئيس دير مار سركيس وباخوس، التابع للرهبانية الانطونية المارونية، الاب ميشال روحانا الذي طمأن الى أن "الطاحونة سوف تعود الى الحياة مجددا مركزا ثقافيا، واجتماعيا، ومنطلقا لانشطة عدة، ترجع اليها ماضيها العريق، وايام العز، التي شهدتها منذ فترة غير بعيدة". وجزم الاب روحانا أن "الطاحونة لن تعود على الاطلاق الى عملها الرئيس اي طحن القمح والذرة والطحين، بسبب تغيير معالمها الداخلية وفقدان اجزاء كثيرة من عدة الشغل، الا ان تفعيل عملها واستعادة نشاطها الثقافي يجب ان تعود منارة للاشعاع الثقافي والفكري كما هي تقاليد الاديار".
يستقبلك الاب روحانا في مكتبه الكائن في دير مار سركيس وباخوس، الذي يشرف على نهر مجرى رشعين، ويعلو الطاحونة الاثرية، فيشرح المشاكل التي تقف عائقا في وجه تنشيط عمل الطاحونة، والتي يتصدرها مشكلة المواقف، مشيرا إلى أن "الرهبنة بصدد دراسة مشروع متكامل لاعادة فتحها ودراسة تكاليفه ايضا، كي تعود الطاحونة صامدة تستعيد هيبتها كما في سابق عهدها". ويضيف: "في السابق كان هناك ازدواجية بين رئاسة الدير ورئاسة الجامعة الانطونية فرع مجدليا زغرتا، فكانت كل الانشطة الثقافية تقام على مسرح الجامعة، أما اليوم فنحن نسعى إلى أن تقام كل الانشطة التابعة للدير في الطاحونة الاثرية بعد إعادة تأهيلها وتجهيزها لتعود مركزا ثقافيا كما في السابق".
وتمنى أن "يصار الى تعاون مع اتحاد بلديات زغرتا بشخص رئيسه طوني سليمان للعمل على حل مشكلة ركن السيارات، من اجل تفعيل عمل الطاحونة ومن غير الممكن اعادة كل ما خسرته محلة المرداشية في زغرتا، من سياحة كانت مزدهرة بشكل واسع خاصة في مطلع الخمسينيات، ولكن من الممكن على الاقل انقاذ ما تبقى الى اليوم من مظاهر لها صلة بالماضي وذكرياته التي لا يعرفها الا القلائل من الناس، ولم يعد باستطاعتك ان تصادف رجلا واحدا من ذلك الجيل يخبرك عن امجاد تلك المحلة وتاريخها الغائب، فالتشويه الذي أصاب ضفتي النهر، الى المقاهي المنسية المنتشرة في محيطه، الى العشب البري الذي نبت في كل مكان، ووصل البعض منه الى اعلى من مستوى سطح البناء، وضيق مساحة النهر بفعل الاشجار والاعشاب البرية والنفايات المرمية في وسطه، كل ذلك لا يبشر بأن المكان سيعود الى الحياة مرة جديدة الا اذا تدخلت السلطات المحلية والجمعيات البيئية وانقذت المكان من الاضمحلال".
منذ العام 2005 والطاحونة الاثرية في محلة المرداشية في زغرتا مقفلة امام الناس، ولم تفلح المحاولات الاخيرة لتحويلها الى ان تكون عامل جذب للناس، فبقيت حتى الان مقفلة من دون تحديد وجهة استعمالها. تستظل الطاحونة تحت اشجار الدلب العتيق، على كتف نهر رشعين، وتعتبر من اقدم الطواحين الموجودة في مدينة زغرتا، تميزها الحجارة القديمة الضخمة التي شيدت منها، وهي تحوي بداخلها سبعة اقبية كبيرة معقودة بالحجارة، وهي معلم معماري واثري بامتياز. تقع الطاحونة على الجهة الشرقية للمدينة ومباشرة بالقرب من دير مار سركيس وباخوس، ومقهى المرداشية الكبير على الضفة الشرقية لنهر رشعين الشهير. موقعها مميز وجميل تحوط به المياه الباردة الصافية والنباتات الخضراء والاشجار الكبيرة الوارفة الظلال.
وبحسب الوثائق المحفوظة في أرشيف الدير فإن الطاحونة كانت ملكا لآل كرامي من طرابلس، قبل ان يشتريها الدير في العام 1885 وهي لا تزال ملكا له حتى اليوم، وهي تشكل جزءا مميزا وقائما من التراث اللبناني والزغرتاوي والمعماري القديم. أخضعت لعملية ترميم عام 2004 بعد توافق رئيس دير مار سركيس وباخوس التابع للرهبنة الانطونية في حينها الاب نادر نادر، ورجل الاعمال الزغرتاوي قبلان انطون يمين، على تأهيلها كي تصبح مركزا ثقافيا بعد سنوات من توقفها. يمين دفع كلفة تأهيلها وتجهيزها وفرشها، في وقت كان يتم خلاله التفاهم مع الاديب محسن ادمون يمين على ادارتها متعاونا مع السيدتين اولينا الدويهي دحدح وأنطوانيت القسحنا المصري، والآنسة ماري حنا دحدح، وآخرين، وبالتنسيق مع رئيس الدير، وقد أطلق على المركز الثقافي إسم "ضفاف".
ويقول الاديب محسن يمين: "لم يكد تشرين الاول 2004 يحل، حتى دب النشاط في مركز "ضفاف" وكسب الذين تولوا ادارتها الرهان، لان ثمة من كان يعتبر ان اجتذاب الرواد الى هذا المكان بالذات، اي الى المرداشية المعروفة تاريخيا بكونها متنزها، قد يكون صعبا للغاية خصوصا مع اشتداد البرد في الشتاء، لكن مع توالي الفاعليات بين محاضرة، توقيع كتاب، حفل موسيقى وغيرها، لم يلبثوا أن غيروا رأيهم واقتنعوا بأن البناء الاثري يضفي على ما يتم من أنشطة سحرا ورونقا غير موجودين في أبنية اليوم".
في العام 2005 كف "حجر رحى" الثقافة عن الدوران في الطاحونة، وعادت الى عزلتها مقفلة تعشعش فيها العناكب وينبت العشب الاخضر بين حجارتها التاريخية الرائعة. في سجل الطاحونة الثقافي تاريخ حافل من الانشطة، حيث تعاقب على الاطلالة في "ضفاف" كل من الاب شربل ابي خليل الانطوني (كتاب مجلة الميدان ـ زغرتا )، الدكتور فريديريك معتوق ( محاضرة ومعرض عن الحرف الشعبية )، عازفة البيانو تاتيانا بريماك، الروائي رشيد الضعيف، رامي مرسال خليفة عازفا على البيانو بمواكبة موسيقار سوري على آلة "الفلوت"، الدكتور بيار الزلوعة في حديث عن علم الوراثة الجينية. الى الكثير من تواقيع الكتب، وندوات الشعر، والنشاطات، وكان آخرها نشاط عن المكرم البطريرك اسطفان الدويهي، قبل ان تتكلف هيئة ادارية جديدة في تشرين الاول 2005 بمبادرة من الاب نادر نادر، للاقلاع مجددا لكنها لم تكمل المشوار، ما تسبب باقفال الطاحونة مجددا.
===============