تحقيق - فريد بو فرنسيس
تغير المشهد كثيرا في دير مار جرجس في بلدة عشاش الواقعة في قضاء زغرتا شمال لبنان، فالدير العائد من الركام اضحى محجة للمؤمنين بعدما تم انجاز البناء فيه، جراء تعرضه للهدم مرارا اثناء الحرب، والمدرسة الملاصقة له، والتي تحمل اسم شفيع الدير، اصبحت صرحا تربويا بات يشكل حاجة ضرورية في منطقة تتوسط قضاءين هما قضاء زغرتا وقضاء الضنية.
في العام 1805 تسلمت الرهبانية اللبنانية المارونية املاكا في بلدة عشاش في لبنان الشمالي، قضاء زغرتا، وقفا من السيدة ماريا سوسان ارملة السيد ريشا جرمين، الحلبية الاصل، والفرنسية التابعية، الحقت كل هذه الاملاك بدير مار انطونيوس قزحيا، وغرس قسم منها باشجار التوت والزيتون. ولاحقا قررت الرهبانية اللبنانية المارونية خلال مجمع عام عقد في 16 تشرين الثاني عام 1847 في عهد الاب العام عمانوئيل الاشقر، انشاء دير على اسم القديس جرجس الشهيد في بلدة عشاش في قضاء زغرتا، وفصل الاملاك التابعة في المنطقة عن دير قزحيا، والحاقها بالدير الجديد، وبدأ الرهبان المتعاقبون على ادارته يعملون تدريجيا على توسيع البناء واكماله، وشيدوا له كنيسة متقنة الهندسة سنة 1914.
منذ نشأة الدير عمل الرهبان فيه على تعليم اولاد الجوار، كما هي عادة اديار الرهبانية، مبادىء التعليم المسيحي واساليب القراءة والكتابة، والحساب، تحت السنديانة صيفا، وفي احدى غرف الدير شتاء. وبتاريخ 10 اذار 1945 حصلت الرهبانية اللبنانية على مرسوم يقضي بفتح مدرسة ابتدائية في دير عشاش، خاصة للصبيان، حمل الرقم 2775 صادر عن رئيس الجمهورية بشاره خليل الخوري ورئيس مجلس الوزراء عبد الحميد كرامي، فبوشر بانشاء مبنى جديد مستقل في جانب الدير مخصص لمدرسة تكون لجميع ابناء المنطقة. وبتاريخ 2 ايار 1952 وبناء على طلب رئيس عام الرهبانية اللبنانية المارونية، أجاز وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة، بتحويل مدرسة عشاش الابتدائية الخاصة في عشاش الى ثانوية بادارة الاب جرجي موسى سابا بحسب القرار رقم 3015 تاريخ 6 حزيران 1952، فجمعت هذه المدرسة طلابا من جميع المناطق اللبنانية وكانت صورة مصغرة للوطن، واستمرت تزدهر وتنمو حتى بداية الاحداث اللبنانية عام 1975.
تعرض الدير للاعتداء والرهبان للاهانة، في ظروف مختلفة، لكن الدير والمدرسة بقيا رغم كل الاحداث التي عصفت بالدير واصابت رهبانه، منارة اشعاع روحي وتربوي، يقصدهما اهالي المنطقة وابناؤهم على اختلاف انتماءاتهم. واستمر الرهبان في تأدية الشهادة المسيحية بين جميع الاهالي، الى ان قضت الاحداث سنة 1975 على الدير والمدرسة، وهدمت الكنيسة وهجرت الرهبان، وكان نصيب ثلاثة منهم (الاب انطونيوس ثمينة، الاب بطرس ساسين، والاخ يوحنا مقصود) الموت رميا بالرصاص في 8 ايلول 1975 وهم بذلك يؤدون الشهادة التي سبق للمسيحيين الاولين ان قبلوها حبا للمسيح.
الا ان الرهبانية عادت تضمد الجراح، وتعطي المثل الاعلى للاهالي والجوار في الصفح والنهوض من الركام، لمتابعة رسائل الانجيل، وعاد الدير اليوم، الى ما كان عليه من نشاط رسولي وعمل زراعي يقوم بهما رهبانه، الى جانب استئنافهم رسالة التعليم في مدرسة الدير التي افتتحت نشاطها في العام 1996 بشكل تدريجي يتناول جميع مراحل التعليم.
دير عشاش يقع على الحد الفاصل بين قضاءي زغرتا والضنية، مشكلا بموقعه الاستراتيجي هذا همزة وصل ونقطة التقاء أضحت ضرورة في زمن التباعد والتنافر. في العام 1847 قرعت اجراس دير عشاش للمرة الاولى في البلدة فرددت اصداؤها مرحبة بمآذن بلدة مرياطه المجاورة. واذا ما اردت الحديث عن هذا الدير العريق لا بد من ان ينحني القلم لذكر رهبان اجلاء مروا في هذا الدير العريق وتركوا بصمات واضحة في ارجائه، حيث اضفى كل منهم وعلى طريقته، جمرة مشعة تنير عقول التائهين وتدفىء قلب المؤمنين.
رئيس الدير
رئيس الدير الاب كليم التوني اتخذ منذ اللحظات الاولى لتوليه رئاسة الدير (2004) عمل تحت شعار "العمل صلاة صامتة"، فأكب على العمل بصمت متسلحا بعزم وارادة قل نظيرهما، وحرص منذ اللحظة الاولى ان تشرع ابواب الدير، لكل سائل حاجة، حتى بات الدير مقصدا لكل محتاج ومحجة لكل زائر يلتمس بركة او شفاعة من شفيع الدير "مار جرجس" فعاد بذلك دير مار جرجس عشاش ليلعب دوره الريادي في جمع ابناء البلدات المجاورة، الذين باتوا يشعرون بأن الدير هو همزة وصل ونقطة التقاء".
وفي هذا الاطار يقول الاب التوني: "ان دير مار جرجس عشاش اصبح اليوم على اتم الاستعداد لخدمة ابناء الرعية، ومن يرغب من القرى المجاروة، بعدما انتهت عملية الترميم، وعاد لحجارة الجدران الخارجية والداخلية وهج بريقها، وازيل عنها سواد الحرب وما تحمله من ذكريات اليمة. كما جهز الطابق الارضي للدير بقاعات جديدة وصالونات استقبال، ومكتب لمتابعة شؤون ابناء الرعية مع كل ما يلزم من مطابخ وغرف طعام، وبات الطابق الارضي مخصصا لمتابعة شؤون الرعية واحتضان مناسباتها، وعاد الطابق العلوي مقر صلاة وتامل للاخوة الرهبان، يسوده الهدوء والسكينة بعيدا عن ضجيج الحياة وضوضائها".
وتابع الاب التوني: "كل هذه الاعمال والمسؤوليات لم تمنعني من الاهتمام بارزاق الدير وبساتينه، فقد نالت الارض حصة واسعا من وقتي، فقمت باستصلاح الاراضي وغرسها باشجار الزيتون والصنوبر والاشجار المثمرة مثل الخوخ والاجاص وغيرها.. ويجري العمل على تجديد كروم العنب بأصناف جديدة من الكرمة لتعود الى خوابي الدير المعتقة حلاوة المذاق بعد ان صدم جفافها عبق القناطر العتيقة".
عند مدخل الدير الحديث والمتقن، يستقبلك الاب الرئيس كليم التوني، متسلحا بانجازات قل نظيرها في اي مدرسة او معهد، فقاعة الادارة اضحت متطورة الى حد كبير لتواكب تطور العلم والمعرفة ومستقبل الطلاب، خلية نحل تعمل خلف الزجاج الشفاف في مكاتب حديثة واجهزة كومبيوترات متطورة. واذا انتقلت الى الطابق العلوي لا بد ان تتوقف مذهولا بالقسم الجديد والذي يضم مكتبا للاب الرئيس الى جانبه غرفة خاصة لامانة السر، مع صالون واسع لاستقبال الاهل والزوار وقاعة حديثة وعصرية للاجتماعات والندوات اضافة الى مكتب لمسؤول قسم التوسط، مشغول بعناية فائقة وروعة في التصميم، فتكتشف بنفسك المجهود الذي قام به الاب التوني للوصول في هذه المدرسة الى مصاف المعاهد التربوية الاولى في لبنان.
"المدرسة اليوم تضم حوالى 940 طالبا وهذا الرقم مرشح للارتفاع في السنوات المقبلة، الطلاب من جميع الطوائف لا فرق بين طالب واخر، يأتون من جميع المناطق المجاورة لنا". يضيف الاب التوني: "نحن لم نعد محصورين في منطقة معينة او طائفة معينة والباصات تأتي الى المدرسة من كل الجوار، فالهدف هو رسالة التعليم السامية، ونحن لا نرفض تسجيل اي طفل لاسباب مادية، فرسالة التعليم سامية، وحق الطفل في تلقي العلم هو الاساس".
وعن حداثة البناء يقول الاب التوني "ان الجناح الغربي للدير قد تم ترميمه بالكامل، واصبحت الغرف الذي يحتويها مجهزة بشبكتي الهاتف والانترنت، اما على سطح المبنى فهناك ورشة قائمة على قدم وساق بعد ازالة الباطون القديم وتنظيف السطح من مخلفاته، لوضع مكانه سقفا من القرميد سيستعمل تحته لاحقا قاعة امتحانات على مساحة تمتد لحوالى 1400 مترا مربعا. أما حديث المدرسة فهو مبنى المسرح الذي بوشر العمل فيه، ليتسع لــ 480 مقعدا، وجناح خاص لتعليم الموسيقى، اما الطابق الاول فهو مخصص للحضانة من عمر شهرين الى عمر ثلاث سنوات، والطابق الثاني مخصص لقسم الروضات"، مشيرا الى ان "هذا المسرح مخصص لنشاطات المدرسة والرعية، وكل النشاطات الثقافية في المنطقة، التي هي من صميم رسالة الرهبانية اللبنانية المارونية، املا ان تنتهي الاعمال فيه مطلع العام المقبل".
وأعلن "ان ورشة الحداثة والتجدد لم تقتصر على بناء الحجر فقط، بل تراقفت مع تزايد عدد الموظفين والاداريين وافراد الهيئة التعليمية، بحيث بات الكل هيئة ادارية وتربوية، فريقا متكاملا متناغما في العمل، موحدا في الرؤية، جاهزا لتقديم الافضل، ولا بد هنا من التنويه بان المدرسة تتميز بهيئة ادارية تمتلك من الخبرات والكفاءة ما يؤهلها ان ترعى شؤون تلامذتها بكل وعي وادراك وهذا ما يعزز ثقة الاهالي بالمدرسة، ويجعلهم مطمئني البال على مستقبل ابنائهم. كما ان المدرسة تفخر بان تضم اليها، من الاساتذة من يشهد لهم بالكفاءة، وجميعهم من حملة الاجازات التعليمية، كل بحسب اختصاصه، وهذا ما يسهم في رفع المستوى التعليمي".
يطول الحديث ولا ينتهي، فالتاريخ لا يلخص بأسطر او بكلمات، وتبقى مدرسة ودير عشاش سفينة علم ومعرفة تشق عباب الجهل فتزرع الثقافة أينما رست، وطائر فينيق يتجدد دائما، ومع كل تجدد له يرسم في قلوب ابنائه اشراقة امل بلبنان افضل.