تحقيق خليل سمعان
ما إن تلامس الشمس صفحة الأمواج المتلألئة بالضوء الخجول، حتى تخف الحركة التجارية في جبيل مدينة الحرف، ما خلا قلة من تجار السوق القديم المرصوف بالحصى البحري في مربعات صخرية، المفتوح على المدينة شرقا وعلى "سيدة البوابة" غربا فالبحر، وعلى "عجقة" شباب وشابات قصدوا المطاعم المنتشرة بكثرة في السوق القديم وعلى الخط الروماني والميناء... وأنت تعبره تلفح وجهك نسيمات لطيفة على شيء من البرودة تذكرك بأنك على أبواب الربيع وأن الجميع يتحضر لاستقبال عريس الفصول والنوافذ المشرعة على الأماسي الدافئة، وكثافة الندوات الفكرية والأدبية والسهرات الموسيقية ومعارض النحت والرسم والأشغال اليدوية ومهرجانات الفرح والتراث الراقية، تحتضنها مدينة جبيل - بيبلوس محاطة بالتاريخ الجاثم بعظمته وصفحاته المشرقة حولها، تنتظر الدفء والضوء لتعاود نشاطاتها بهمة خيرة شبابها وشاباتها يديرون المجلس البلدي، والمجلس الثقافي والأندية الثقافية والرياضية.
ومن لا يقصد مدينة جبيل - بيبلوس مدينة العيش الواحد، كأنه ضل الدرب وهو يعبر طريق الساحل تائها عن العنوان الذي يسجله السياح في دفاترهم الخاصة، أو يكون قد صم أذنيه عن سماع خشيش مجاديف مراكب فينيقية عمرها آلاف السنين، أو قد لا تكون الأحلام الوردية بين أدونيس وعشتروت قد خطرت له في بال.
لمحة تاريخية
جبيل المدينة الأقدم على ساحل المتوسط، بل هي من أقدم مدن العالم، على ما يذكر المؤرح "سكن يتن" البيروتي، وهو أول مؤرخ لمدينة جبيل - بيبلوس في القرن الرابع قبل المسيح.
قد يكون معنى الإسم مصنع الخزف "Cebel"، وسماها المصريون "كبنة"، وفي الآشورية "Gubli "، أما الإغريق فقد سموها على اسم الورق الذي كانت هي مصدره " Patyrus " وكان هرودس يتلفظ بها " Bublos " عوضا عن الإسم الأول تحريفا أو خطأ... واسمها أيضا "جبلة" و"جبال" في التوراة، واسمها السامي القديم لا يزال نابضا في اسمها الحديث "جبيل" الذي هو تصغير "الجبل" المشرف عليها جنوبا، وهذا الاسم بصورته العربية أحدث من صور أخرى وردت في آثار بابل ومصر والفينيقيين والعبرانيين. و"أخص به في صورته العربية يفرزها عن مدن غيرها كـ"جبلة" الواقعة شمال اللاذقية، و"جبل" في العراق، و"بيبلوس" القديمة في مصر السفلى". وفي جبيل من الآثار ما يجعلها متقدمة على غيرها من المدن الفينيقية.
قبل العهد اليوناني
سورها القديم، الذي حماها من الاعتداءات بحرا وبرا، يعود إلى أقدم الأزمنة التاريخية، ضرب مرارا ورممته الدول المتوالية عليها. اما مرفأها الذي خرج منه البحارة حاملين "الأبجدية" إلى العالم، وفيه كانوا يصنعون أساطيلهم من خشب الأرز، ويتبادلون التجارة مع المصريين، فقد صار اليوم مركزا لأضخم المهرجانات الدولية، ترفع فوق مياهه و"سنسوله" المسارح ليستقبل أهم الفنانين العرب والأجانب، ولتقدم عليه الأعمال اللبنانية ولا سيما مسرحيات الرحابنة.
قلعتها القديمة والمدافن في قلب الصخور، وفي المغاور المجهزة مع نواويسها، المزدانة بالنقوش والتصاوير والكتابات، وبالجواهر والحلى الغالية الثمن، وتماثيل أصنام وزجاجات للدموع، والآنية البيتية الثمينة المختلفة من الخزف والرخام والبرونز والمجوهرات الدقيقة الصنع، والأسلحة... إلى هذه الآثار البنائية آثار صناعية مصرية، أرسلها الفراعنة إلى معابد جبيل، منها الدمى وصور الآلهة المصريين؛ البشرية والحيوانية كالحيات والقرود...
وفي هذه المدينة آثار يونانية، منها نقود ونواويس. أما الآثار الرومانية فلا تزال هي الأبرز، أخصها الهيكل الذي بناه الرومان ولا تزال أعمدته قائمة إلى اليوم، وكذلك المسرح، والحمامات والمعاهد الرسمية، فلم يبق منها إلا القليل بفعل النكبات والزلازل...
وفي جبيل جامعان أثريان لصيقان بالقلعة يعودان إلى زمن العثمانيين: مسجد السلطان عبد المجيد، ومسجد السلطان ابرهيم بن أدهم المعروف بمسجد "البحارة" الذين كانوا يلجأون إليه انتظارا لهدوء فوران البحر لمعاودة إبحارهم. وهناك، أيضا، جامعان حديثا العهد: جامع النور وجامع الإمام علي.
أما كنائسها فيعود إنشاؤها إلى زمن ملوك الروم ومنها "مار يعقوب" وكنيسة القديسة "تقلا"، وكنيسة القديسة "أكويلينا" و"سيدة البوابة" وكنيسة "سيدة النجاة". وفي عهد الصليبيين من العام 1095 وحتى العام 1245 رممت القلعة وحصنت، وبعض ما يرى منها اليوم من الحجارة الضخمة شبيه بمداميك قلعة بعلبك. وبنى الصليبيون، كذلك، كنيستين: "مار يوحنا مرقص" وألحقوا بها قبة فوق حوض العماد... والآثار الباقية في قلعة جبيل، إلى اليوم، قائمة على جبيل الأولى والثانية والثالثة، وقد دل علماء الآثار على ذلك بفعل الحفريات والطبقات المكتشفة.
جبيل الحديثة
شعوب وحضارات عدة مرت على جبيل، مدينة جذورها ضاربة في القدم لكنها حضارية تفتخر بماضيها وتنطلق منه لمواكبة التطور والتقدم والعمران والحداثة، ففيها مستشفيا "سيدة المعونات" و"سيدة ماريتيم"، وفرع للجامعة اللبنانية الأميركية LAU والجامعة الأميركية التقنية AUT، ومتحف الشمع المنشأ بجهد الفنان شوقي أبي حنا، إلى الثانوية والمدارس الرسمية والخاصة والمعاهد التقنية والأندية الثقافية والرياضية: نادي الأخوة المريميين، نادي بيبلوس، نادي أدونيس؛ كلها ناشطة وتسجل مكانة لافتة ولا سيما على الصعيد الرياضي. وفيها مجلس بلدي يضم نخبة من الشباب والشابات المتخصصين والمثقفين برئاسة المهندس زياد حواط، همهم الوحيد العمل الدؤوب من أجل نهضة مدينتهم وتقدمها. ومنهم نجوى باسيل، بشارة مونس، أيوب برق (نائب الرئيس)، الدكتور وديع أبي شبل، عماد سعد، ميشال قويق، وآخرون...
تستقبلك في الجهة الغربية، وسط المدينة، حديقة عامة متنوعة الأشجار والأزهار، وفيها بركة مياه، وألعاب خاصة بالأطفال، وممرات للمتنزهين، ومواقف واسعة للسيارات، وأماكن واسعة لإقامة الاحتفالات المختلفة، لم يمض على استئجارها وإنشائها أكثر من سنة على أرض تابعة للبطريركية المارونية، مساحتها ثمانية عشر ألف متر مربع، بكلفة مليون وثماني مئة ألف دولار أميركي. وقد مولت المشروع البلدية ومصرف لبنان ووزارة البيئة.
وما يلفت الانتباه في مشوار في جبيل الحديثة، مواقف واسعة وحديثة للسيارات تستوعب نحو ألف سيارة تم تجهيزها مع مداخلها ومداخل القلعة ببوابات رقمية إلكترونية، إلى توسيع طرقات واستحداث أخرى كطريق حي "السنسال" وأرصفته الجديدة، وطريق آخر يربط "الخط الروماني" أي مدخل المدينة بطريق "السنترال"، وطريق ثالث مواز له، أهميته أنه يفتح نهارا أمام السيارات ويقفل مساء ليقتصر العبور عليه لهواة المشي.. وقريبا سيتم الحفر لتجهيز المدينة بشبكة مجارير حديثة ترتبط مباشرة بمحطة تكرير، لعل هذه العملية تنقذ المياه الجوفية، في هذه المنطقة، من التلوث بمراحيض الآبار الارتوازية المفقودة القعر.
الميناء
ميناء المدينة، يغص بالمتنزهين في البحر وعلى أرصفته حيث استحدث ممر خاص للمشاة بمحاذاة المياه حماية لهم من السيارات، إلى تجهيز مسبحين لعموم الناس على شاطئي "البحصة" و"الرمل". وقد ترافق ذلك مع تنظيم حملات نظافة قام بها شباب وشابات وطلاب وطالبات من مدارس المدينة وهيئاتها الكشفية، ومن خارج المدينة أيضا.
واللافت على جانبي الطرقات في جبيل وفي السوق القديم تلك الأشجار الباسقة والأحواض الخشبية للزهور المختلفة الألوان، تأسر العيون وتشرح النفوس لطيب رائحتها وجمال منظرها، يحرسها مجموعة من شباب الشرطة نهارا وليلا ينتشرون هنا وهناك لتأمين الراحة للناس مجهزين بأحسن التجهيزات الهاتفية وغيرها وسيارات الشرطة، وقد تم تدريبهم في دورات خاصة لدى قوى الأمن الداخلي، ليتمكنوا من القيام بواجباتهم على أكمل وجه... وهناك أيضا ست سيارات صديقة للبيئة تعمل على الكهرباء تم شراؤها لنقل السياح إلى داخل المدينة.
لم ينحصر هم الشباب في المجلس البلدي بهذه الأمور وحسب، فللنشاطات الثقافية والحفلات الموسيقية المختلفة، والمهرجانات الفولكلورية وحلقات الرقص، والندوات الفكرية والأدبية، والأماسي الشعرية، وإطلاق دواوين وكتب جديدة، حصة كبيرة، اضافة إلى إقامة أسبوع موسيقي برازيلي وآخر فرنسي، إلى تنظيم يوم لتشجيع الشباب اللبناني على ركوب الدراجات الهوائية بطرق حضارية. Bike day.
ويجري التحضير حاليا لإعادة تأهيل واجهات محلات السوق الرئيسي في المدينة ابتداء من "السراي" وحتى مفرق "الميناء" عند "طاحون العم" بهندسة جديدة تتناسب وطابع المدينة التاريخي والأثري بكلفة مليون وسبع مئة ألف دولار أميركي يقدمها رئيس مجلس إدارة بنك بيبلوس الدكتور فرنسوا باسيل. إلى ذلك، يتم العمل على إقامة مجمع رياضي على التلال الواقعة شرق كنيسة "مار جرجس" على قطعة أرض مساحتها خمسة وعشرون ألف متر مربع تم استئجارها من الرهبانية اللبنانية المارونية، بكلفة مليونين وسبع مئة ألف دولار أميركي، قدمها المغترب اللبناني كارلوس سليم.
وفي سياق متصل، تبرز الشفافية في عمل هؤلاء الشباب، إذ قرروا إقامة قصر بلدي حديث بالقرب من المحول الأساسي في وسط المدينة على قطعة أرض تملكها الدولة اللبنانية وقد خصصتها وزارة المالية لهذا الأمر. ومن أجل تنفيذ هذا المشروع، أجرى المجلس البلدي مباراة بعيدا عن المعارف والمحسوبيات والأقارب، للحصول على أفضل عرض مالي وأجمل تصميم هندسي، اشترك فيها أربعة وثلاثون مكتب هندسة من كل لبنان، فاز فيها مكتب المهندس هاشم سركيس من بلدة المختارة، وهو أستاذ في جامعة هارفرد في بوسطن، وقد تألفت لجنة التحكيم من خمسة عمداء لكليات الهندسة في الجامعات اللبنانية وهم: أندريه بخعازي - "ألبا"، مارون دكاش - L.A.U.، الياس طعمة - جامعة الروح القدس - الكسليك، جان بيار أسمر - جامعة سيدة اللويزة، مصباح رجب - الجامعة اللبنانية - فرع طرابلس.
يواكب هذه الأعمال طفرة عمرانية في إنشاء الأبنية السكنية والمشاريع السياحية الضخمة كالفنادق والمطاعم وغيرها...
مدينة الحرف هذه، كانت قبل سبع سنوات تقفل أبواب أسواقها عند السادسة مساء، وتغرق في الصمت والوحدة والعتمة لانقطاع التيار الكهربائي، أما اليوم فهي مدينة الحركة التي لا تهدأ. جبيل هي المدينة المتصل ليلها بنهارها، سهرات و"عجقة ناس" ونشاطات حتى الصباح.
© NNA 2012 All rights reserved