تحقيق جمال الساحلي
بريصا، قرية صغيرة في منطقة الهرمل، تبعد عن العاصمة حوالي 160 كيلومترا، تقع على بعد 12 كيلومترا عن منطقة الهرمل وسط ممر جبلي يربط منطقة الشربين نحو مرجحين والبلدات والتلال المحيطة. تنتشر بيوتها المتواضعة وسط أشجار عملاقة ومعمرة مشكلة غابة من الاشجار المثمرة وغير المثمرة في كل المنطقة.
هناك على الطريق المؤدية إلى غابة وادي الشربين، حفر الفاتح البابلي نبوخذنصر الثاني اسمه على أكبر لوحتين عرفتهما الحضارة البابلية، وكتب على صخورها أطول نقش بابلي في العالم البالغ 1400 سطرا تخبر عن الفاتح وبلاده.
حروف النقش من البابلية القديمة، عمل النحات بداية على تسوية وجه الصخرة بحيث حفر فيها نوعا من كوة مربعة جوانبها متوفرة في الأطراف الأساسية للصخرة، بيد أن الطرف العلوي بارز جدا وهو أقل بروزا إلى اليسار، ولا تظهر حدود طرف اليمين بحيث يبدو أن وجه الصخرة لم يتعرض للنحت، بل تم صقله فقط. يبلغ طول الكوة 5.50 م، ويقع طرفها العلوي على ثلاثة أمتار من الأرض. أما طرفها السفلي، إن كان هناك من طرف، فلم يتبق شيء منه. فالصخرة تعرضت للتخريب بعمق من قبل الباحثين عن الكنوز، ما جعل الجهة السفلية للنقش غير موجودة. في قسم اليسار من خلفية الكوة تم نحت تمثال مدمر حاليا، تعرضت الصخرة للكسر وأقسامها البارزة تم انتزاعها بالكامل تقريبا. بيد أنه يمكن تمييز إطاره. وفي الحقيقة، لقد تمت تسوية خلفية الكوة بعناية، ولكن سطح الصخرة فيه نتوءات بارزة في مواضع وجود التمثال، بينما هي ملساء تماما في باقي الكوة. يمثل التمثال رجلا واقفا يمسك بذراعه الممدودة حيوانا، هو على الأرجح أسد منتصب على قائمتيه الخلفيتين ويرفع إلى الأعلى إحدى قائمتيه الأماميتين ليهم بضرب خصمه بين جسم الرجل وطرف اليسار ثمة فراغ تم تحته، على مستوى قدمي الرجل، نقش دعاء أوابتهال لالهة ما. لقد اختفى معظم النقش هنا، ولا يمكن غير تبين بضع كلمات.
يتألف النقش من تسعة أعمدة، العمود الأول محفور على يمين الرجل، تقع سطوره العشرة الأولى فوق الذراع الممدودة التي تلتقط الحيوان، أما السطور الأخرى فهي تحت الذراع. يقع العمود الثاني فوق رأس الأسد. وتتوالى الأعمدة تباعا بلا انقطاع من الثالث حتى التاسع على يمين النصب وتشغل وسط الكوة ويمينها. وضعت على اللوحات الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة الأعمدة السبعة الأولى. أما حالة العمودين الأخيرين فهي سيئة لدرجة لا يمكن معها قراءة غير بضع كلمات وأحرف متناثرة.
العمود الأول
وفي ترجمة للعمود الاول كتب: نبوخذنصر، ملك بابل، المخلص، المطيع لمردوخ Mardouk، إشاكو ichakkou السامي حبيب الإله نابو Nabou، الملك الشهير المتطلع دوما لرغبات مردوخ، الإله الكبير الذي خلقه، ورغبات نابو، ابنه المخلص المحبوب من ملكه، العارف بالعلوم، والذي يروقه عبادة قداستهم، ذلك الذي تصيخ أذناه سمعا لأمر قداستهم، العارف، العلامة (؟) الذي يعبد الإله والإلاهة باسمهما الشهير، الحكيم التقي، مجدد هيكل شاكيل Chakkil وهيكل زيدا Zida (؟)، الابن الشهير لنابو-بال-وصور (نابوبالوصور)، ملك بابل؛ أنا!.......
العمود الثاني
وكتب على العمود الثاني "لقد عهد إلى ساعدي بهراوة(؟) تلقي الهدوء في نفوس الرجال، وأمرني القيام بإصلاحاته وأنا منشغل باستمرار وبدون توقف بسيدي مردوخ، واهتم بلا توقف بهياكل نابو الابن المخلص المحبوب في مملكتي؛ وإني لأتفكر بما يروقهم. من أجل عبادة قداستهم..
العمود الثالث
العمود الثالث وهو على درجة من التشويه يستحيل معها تقديم ترجمة كاملة له، ويبدو أن الملك يتحدث فيه عن تقواه تجاه الآلهة، ويفتخر بأنه جاب المسالك الوعرة واجتاز الصحارى ويتباهى بعظمته وقدرته. يبدأ مع السطر 24 مقطع من السهل استعادته وفي
ترجمته: كنت أجمع سنويا وأراكم جزية الجبال ومنتجات البحار والسهول والذهب والفضة و..... الثمينة، والصنوبر الضخم، وقدرا هائلا من الجزية، والضرائب المتعددة.
واعتبارا من السطر 34 يبدأ الملك بتعداد أعمال الترميم والتجميل التي تم انجازها في هيكل شاكيل نزولا عند أوامره.
العمود الرابع
سطوره الثمانية الأولى واضحة المعنى وإن تكن نهاياتها ناقصة، ففيها يتحدث الملك عن هيكل قام بتوسعته ويعبر عن ذلك بقوله: لقد جعل ارتفاعه 30 ذراعا ولم يرفع قمته أبدا. أما أنا فمن أجل بنائه رفعت ذراعي وبيدي الطاهرتين قطعت شجرة صنوبر كبيرة الحجم من تلك الشامخة في لبنان، غابة......
وفي السطور 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، يتعلق الأمر بأبواب هيكل من المرجح أن الملك صنعها أو رممها.
العمود الخامس
السطور الأحد عشر الأولى غير مقروءة. وفي السطور 12 و13 و14 و15 و16 و17 و18 يتعلق الأمر بطقوس الاحتفالات بالإله مردوخ، ولكن النص على درجة من السوء مع الأسف بحيث تتعذر ترجمته.
ومن السطر 19 يبدأ مقطع طويل نصه الحرفي في أعلى العمود الثالث من نقش الحروف الحديثة وبالتالي فمن غير المجدي وضع ترجمته.
العمود السادس
يبدأ العمود السادس بتعداد ألقاب الملك: نبوخذنصر، ملك بابل، مجدد هيكل شاكيل وزيدا. واعتبارا من السطر الثالث حتى السطر 17 فإن النص تتخلله كثرة من الفراغات فأصبح غير مفهوم. وفي السطر 18 نجد مقطعا يتناول الأعمال التي يسعى الملك إلى انجازها في محراب الإله نابو، وترجته: ............ قطعت بيدي الطاهرتين، وكسوتها بالذهب الأحمر، وزينتها بالحجارة، بـ..... ووضعتها من أجل سطح هيكل ومحراب نابو مقابل ثلاثتهم. وبخصوص الأبنية الستة الملحقة بمحراب نابو ، فزينت بالفضة البراقة خشب سطحها المصنوع من السرو. وصنعت تماثيل ضخمة من البرونز وكسوتها بـ...... ووضعتها على عتبة مدخل المحراب. وطليت بالذهب الأحمر العتبة وأطر الأبواب وأرضها وحلقات الأبواب وباب المحراب. ورصفت جادة المحراب والطريق إلى المعبد بالآجر المغطى بدهان فضي لماع، وزودت الأبواب المصنوعة من خشب السنديان والسرو بقفل فضي لماع وضعته في كل الأبواب. وجعلت مذبح المصليات وساكف الباب من الفضة اللماعة........................
العمود السابع
كتب على العمود السابع: اعتنيت أكثر من السابق بالكبيرة ...... وقدمت في اليوم الأول، على مائدة أسيادي نابو ونانا ، ثورا ناضجا ......... عجلا، خروفا، إراقة الخمر تكريما للآلهة ....، واحدا من ثلاثة ، عشرون .....، البيض من ، اثنان حمراوين، واحدا من ، سمك البحر، من ، خضارا طازجة أفضل ما تنتجه الزراعة، ثمارا ناضجة، منتجات الحقول، بلحا، الزيت ، الخمر، من النقي، السمن، من ، الحليب، من ، الدسم، نبيذ العسل، من ، الخمر الأبيض، كل ذلك بكميات أكبر ممن السابق.
اعتنيت بـ........... مركبه البراق، أنا.......، وطليت بالذهب الأحمر هيكله المصنوع من السنديان وساريتيه من السرو.....
عند الاعتدال (بداية الربيع) عند رأس السنة، في عيد أكيت akit سيد الآلهة مردوخ، نابو، يأتي الابن الجبار بكل أبهة من بورسيبا Borsippa إلى بابل في قارب نهر الجمال أسمو. بنيت مكللا بالأبهة، وملأت جلالا هيكله وغطيت بالعاج ساريتيه من أجل تطواف عظمته، بغية إثارة الإعجاب. وصنعت من العظمة لإلاهي نابو، سيدي، ما لم يفعله ملك قبلي. ومن الموضع المسمى "إيشتاريت Ichtarit الذي يسقط أعداءه" حتى "الباب البراق"، الجادة المعروفة باسم "الجن إيشتاريت حامية رجالها"، السيد الكبير مردوخ، من الموضع المسمى "إيكيبشوناكار Ikkipchounakar" حتى مدخل نابو في هيكل شاكيل، الشارع المسمى "نابو قاضي رجاله"......
العالمة داريفا
وتشير روسيو داريفا, العالمة في الكتابات المسمارية البابلية، أن النقوش المسمارية المصورة في بريصا تبرز الصورة الحقيقية لاحتلال الفاتح البابلي جبال لبنان. وهذا ما حثها على أن تبحث في بلادها عن تمويل لتنظيف اللوحات وحصلت عليه وبدأت بالتعاون مع المديرية العامة للآثار العمل على تنظيف الواجهة. فعينت المديرية العامة فريقا من مكتب "Conservation المتخصص بالترميم، وبدأت البعثة عملية تنظيف الكتابات المسمارية.
وفي الجهة المقابلة وعلى مسافة من اللوحة توجد كنيسة يعود تاريخها الى القرن الخامس الميلادي حسب كتابات وجدت فيها. ولم يبق من الكنيسة سوى بقايا أعمدة وجدران يغلب عليها الحرمان والإهمال بحيث لم تطالها يوما أعمال الرعاية والتنقيب, والحفاظ على هذا المعلم الذي من الممكن أن يضم تحته أو حوله بحسب ما تشير العوامل المحيطة كنيسة ضخمة تعود الى العهد البيزنطي حسب الكتابات التي وجدت فيها.
حماية النقوش
حماية النقوش البابلية في بريصا لا تزال في أول الطريق. الخطوة الأولى أتمتها العالمة الإسبانية، وهي قراءة النقوش وترجمتها، لكن تبدأ الآن الخطوة الثانية، ألا وهي تأهيل الموقع الذي يجب أن ينجز بالتعاون والتنسيق مع أهالي القرية الذين سيؤمنون أفضل حماية له لان هذه الكتابات النادرة في خطر.
ومن موقع الحرص على أهمية هذه المنطقة السياحية والتاريخية وضرورة الحفاظ عليها وتصنيفها ورعايتها وتأمين الإعلام الكافي، فقد سجل مؤخرا تحرك للجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب من شانه لفت نظر الجهات المعنية في وزارتي الثقافة والسياحة والمديرية العامة للآثار وبلديات المنطقة وسائر الهيئات المعنية للعمل على اعطاء هذه المنطقة جزءا بسيطا من حقها في الرعاية الرسمية من خلال تأمين الحراسة والنظافة والانارة والتصنيف السياحي، إضافة الى الحماية من العبث لما تمثله في ذاكرة تاريخ لبنان من أمجاد.
هي دعوة للهيئات الرسمية والأهلية والشعبية لتنظيم يوم خاص لهذا المعلم لتصنيفه ووضعه على خارطة السياحة اللبنانية..
© NNA 2011 All rights reserved