تحقيق بنيامين الجمال
و بعلبك، بفتح الباءالموحدة ثم تسكين العين، وفتح اللام والباء والكاف المشددة، وضبطها المسعودي - بعلبك - بفتح العين وتسكين اللام، وهي لغة عامة الناس.
والإسم مركب من (بعل- بك) لا خلاف حوله، لكن التأويلات كثرت حول اللغة الأولى التي انطلقت منها التسمية. قيل فينيقية (بعل- بك) أي (بيت البعل) أو (مدينة البعل)، واعتقد جان دي لاروك بأن التسمية جاءت من "بعلثث" إلهة السوريين، والبعل صنم تقمص معبودات وثنية مختلفة في مراحل زمنية متعاقبة. فهو "هدد" جوبيتر (المشتري) البعلبكي، وهو الشمس عند اليونان (هيليوس) أو باخوس إله الخمر.
وذهبت جماعة إلى أن الإشتقاق سرياني (بعل بقعوتو (أي رب البقاع)، تعني صاحب أو رب أو مالك، والبقاع والجذور السامية، تشير أيضا إلى (بعل-البقاع) أي مركز الاله بعل في (مرتفع البقاع) مقابل (بعل-حرمون)، وهذا يتناسب مع موقع بعلبك، فهي أعلى نقطة من سهل البقاع، وحد فاصل بين شطره الجنوبي والشمالي، فالمياه نابعة من جنوبها تسيل جنوبا (الليطاني - نبع العليق) وينابيع الشمال تنساب شمالا (العاصي).
وقد وردت التسمية في كتب العبرانيين (بعل- باح) و(بعلت) و(بعلباكي) و(بعلبكي). وأبى العلماء إلا إدخال اليونانية لحل المعضلة، فقيل إن التسمية يونانية (بعل-باكو) أي بعل باخوس.
وفي رأي ديبوكاج ان (بعل-بك) تأويلها مدينة الشمس، فأطلق عليها اليونان (هيليوبولس) مترجمين اسمها ترجمة دقيقة، لأن"بك" بمعنى بولس "مدينة". والمقاربة لا تخفى بين بعل "شمس الفينيقيين" و"إليو" شمس اليونانيين. وأكد "كاران" هذا الرأي لأن الشمس كانت معبود أهلها.
واقر الرومان هذه التسمية (هيليوبولس) لشيوع عبادة الشمس إحدى الالهات الرئيسة في العبادةالسورية، وقد اطلقوا عليها اساطيرهم مثلما أطلقوا على جوبيتر وسواه، اسم بعل أو إله.
وقال ماكروبيوس إن الصنم الذي عبد في هيليوبولس السورية، جلب من رصيفتها المصرية، وهذا التداخل المصري يطال المعبود والاسم، فقيل (بعل- باكي) اسم مصري ورد مع الصنم المستورد لأن (بك) لم ترد باللغات السامية بمعنى (مدينة)، انما وردت (باكي) في اللغة المصرية بمعنى المدينة.
واعتمد العرب اسمها الوطني القديم (بعلبك)، وكان شائعا بينهم قبل الإسلام، ذكرها الشاعر الجاهلي امرؤ القيس الكندي، لما اجتازها قاصدا بيزنطة قبل نهاية القرن الخامس الميلادي، حيث قال:
لقد انكرتني بعلبك وأهلها ولابن جريج في قرى حمص انكرا
وذكرها عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته:
وكأس قد شربت ببعلبك واخرى في دمشق وقاصرينا
كما وردت في شعر النابغة الشيباني:
أرقت وصاحبي ببعلبك وأرقني الهموم مع التشكي
إن ظهور اسم (بعلبك) في قصيدة أبي الشعراء العرب، أوحى لمؤرخي العرب ولغوييهم بالتقصي عن اشتقاق الاسم، فقالوا: البعل الرب والزوج، والجذر "بك"، من "بك عنقه" أي دقها، وتباك القوم: ازدحموا، فالمعنى الرب الذي يزدحم الناس حوله، وتدق الأعناق، اي تقدم الضحايا عند اقدامه.
وربما أشارت التسمية إلى ازدحام البعول المعبودة وكثرتها في المدينة وقد جاوزت 350 صنما، كما سمي بطن في مكة (ببكة) لازدحام الناس فيه حول الأصنام المنصوبة للعبادة. هذه الأراء تسير في إتجاه واحد، وهو إن الاسم فينيقي (بعل-بك) (مدينة البعل أو الشمس) وكل التسميات التي منحتها فيما بعد (السريانية، والعبرية، واليونانية، والرومانية، والعربية) راعت الإشتقاق الجذر، وصحفته قليلا ليناسب لغات الشعوب المتعاطية مع المدينة والمتعاقبة على حكمها.
موقعها
ربطت عند سفح الجبل الشرقي في القسم الشمالي الشرقي من سهل البقاع، وهي عاصمة (سوريا المجوفة) بينها وبين دمشق يومان أو 9 سكك، أو 31 ميل أو 65 كلم، على خط مستقيم الى الشمال الغربي.
قال بطليموس: مدينة بعلبك في الإقليم الرابع طولها 68 و 20 د.، وعرضها 37 وثلث. وفي التعريفات الحديثة: تقع في عرض 34 درجة و 10 دقائق شمال خط الإستواء و36 درجة و11 دقيقة شرق "غرينتش"، ويتراوح إرتفاعها عن سطح البحر بين 1165م (مركز المدينة) و1200م في تلة الشيخ عبد الله، وتبعد عن العاصمة اللبنانية بيروت مسافة 84 كلم.
نشأة بعلبك
إن الاراء المتداخلة حول هوية التسمية امتدت إلى منشأ المدينة، لكن الواقع يؤكد إنها سكنت منذ القدم، وما وجود مقام أبي البشر والأنبياء (النبي شيت بن آدم) الى جنوبها ببضعة أميال إلا دليل على وجود قديم للحياة فيها.
إن بعلبك الحاضرة تقوم فوق مدينة من المغاور والكهوف المدفونة، تكشف عنها الحفريات وهي منتشرة في مساحة تفوق ثلاثة أضعاف مساحة المدينة المسورة، لكن هذا لا يعني كثافة سكانية كبرى في القديم فالمغاور متباعدة، نجدها في سفح الجبل الشرقي، أشهرها (مغارة الحوت) وهناك كهوف حي الشميس وتحت الشير، ومغاور تلة الشيخ عبدالله وحي الواد والبساتين والكيال والشراونة والأخيرة تتصف بالاتساع والعمق و التداخل... هذه المغاور التي قطنها القدماء ودفنوا موتاهم في بعضها، هي دليل ثابت على أن الإنسان سكن بعلبك منذ فجر التاريخ قبل أن يحظى بتشييد المباني، بل "وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين"، خاصة ان موقعها يغري بالسكن، ويوفر كل مقومات المدينة: الجبال تحميها من الشرق والجنوب، والسهل خصيب، والمراعي فسيحة، والينابيع غزيرة، والغابات في تخومها، والشمس تودعها بآخر أشعة خيوطها.. والجبل الغربي يحميها من لصوص البحر.
لكن الجهل بالتاريخ القديم أفسح مجالا للأساطير التي حكيت حول تمصير المدينة، وبناء هياكلها، وهذا شأن المدن العريقة، فكلها ذات جذور خرافية لم يأنف أكثر المؤرخين جدية من ذكرها، زعم (سنكن بتن) أول مؤرخ لبناني، (عاش في القرن الرابع قبل المسيح) إن بناة المدن الفينيقية آلهة وليسوا بشرا. وكانت مصادره سجلات الهياكل الوطنية ونقوش الجدران... وهذا يوضح ان أصل المدن الفينيقية كان مجهولا في عهد (سنكن بتن) ومنسوبا إلى بناة عريقين في القدم جعلوهم من عداد الآلهة، وأوغلت التكهنات في اغوار الماضي لتنتزع منه تاريخ ولادة بعلبك. قال الدويهي "إن قلعة بعلبك في جبل لبنان هي اقدم من جميع ما بناه البشر في العالم بأسره، أعني أن قايين عندما اعتراه الإرتعاش أمر ببنائها في السنة 133 من كون العالم ولقبها باسم ابنه أخنوخ".
وذكر الأب مارتين اليسوعي "إن الشيطان أشمودي كان مؤسسا لبعلبك و مهندسا لها". وقال ديفيد هيركار إن قلعة بعلبك بنيت قبل الطوفان لأن حجارة الهياكل نقلت على ظهر البهموت _ الذي انقرض بالطوفان _ وهو من جنس الفيل، لكنه يكبره بعشرة اضعاف، وقد وجدت عظامه وحفظت في معاهد أوروبا وأمريكا العلمية، وكتب ديودورس الصقلي نقلا عن حوريات الفينيقيين "إن شيثن إبن الإله الشمس والآلهة روديا إبنة نبتون، أسس مدينة بعلبك إكراما لوالده، ثم أقام فيها معبدا يزينه تمثال باله الشمس".
وجاء في كتاب (الجغرافي اليوناني) المجهول، "ان أجمل نساء آسيا نشأن في بعلبك، لأن فينوس ربة الجمال القديم شيدت في هذه المدينة عرشها، وأشاع فيه سحر الجمال فلا عجب إن رأيت شموسا تخطر في نواحيه".
هذه الخرافات كلها توحي بأن منشأ المدينة قديم قدم الأساطير.