تحقيق خالد عرار
عنجر التي لجأت اليها كليوبترا وأنطونيو، عند هروبهما من مصر واتخذا من قلعتها الرومانية مهجعا لهما وبنيت على انقادها القلعة الأموية، من الثوابت التاريخية في العالم العربي ومن الشواهد على تاريخ لبنان القديم والحضارات التي مرت عليه، ليس جديدا عليها أن تستضيف مؤتمر مركز الاعلام السياحي العربي الثالث الذي سيعقد في لبنان لمدة أربعة أيام، وسيكون يومه الأول في عنجر.
أول منزل شيد في عنجر عام 1940 هو منزل النائب منفيس الذي تولى رئاسة كتلة نواب الأرمن في لبنان منذ تأسيس البرلمان اللبناني لغاية العام 1972 وكان نائبا في البرلمان السوري قبيل احتلال لواء الإسكندرون من قبل الأتراك كما كان ضابطا في الجيش الفرنسي في السنجق، تشغله اليوم بلدية عنجر برئاسة غارابت سركيس بنبوكيان وهو المركز المؤقت لمؤتمر مركز الإعلام السياحي العربي.
عنجر التي صنفت منظمة اليونيسكو قلعتها في التراث العربي، هي اليوم نتاج جهد وتعب ممزوجين بالمرض والألم ليظهر هذا الألم في جنائن ورياض قل نظيرها وبساتين غناء ومياه رقراقة تتجمع على جنباتها أفخم المطاعم والمنتزهات والفنادق، وباتت عنجر اليوم كما كانت في السابق ملاذا للامويين من الحر الشديد الذين كانوا يقصدونها للراحة والإستجمام وبنوا قلعتهم فيها على أنقاض قلعة رومانية بقي منها بعض الأعمدة في الساحات والشوارع، هي اليوم ملاذ لقاصدي الراحة والهواء العليل والراغبين في الإبتعاد عن صخب المدينة وملوثاتها.
مهرجانات قلعة عنجر، كما أوضح رئيس البلدية، أقيمت على ثلاث مراحل عام 1971 في عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية الذي ترأست عقيلته لجنتها وتألف اعضاؤها من النواب الأرمن، فنظمت المعارض في كل فصل صيف على مدى خمسة عشرة يوما، وكان الفنان وديع الصافي من أبرز الفنانين الذين أحيوا هذه المهرجانات، لكنها وتوقفت عند اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 لتعود من جديد عام 1992 في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي وترأست عقيلته اللجنة. استضافت قلعة عنجر في هذه الفترة فرق باليه عالمية والفنانين وائل كفوري ونجاح سلام ومرسيل خليفة، وفي عام 2004 انطلقت المرحلة الثالثة للمهرجانات ورأست لجنتها نسيمة الخطيب عقيلة الوزير السابق سامي الخطيب التي استفادت من وجود شقيق زوجها في المديرية العامة للسياحة ولم تكن البلدية معنية بشكل مباشر بهذه المهرجانات، وكان رئيس بلدية عنجر السابق عضوا فخريا لا يتدخل بميزانية المهرجانات ومصاريفها ولم تكن المهرجانات في ذلك الحين على مستوى يليق بقلعتها.
من الجمعيات المؤازرة للبلدية في عنجر اليوم والتي وصفها رئيس البلدية بوازارات صغيرة، منها نادي الهومنتمن وجمعية الثقافة الأرمنية التي تساهم مساهمة فعالة في تعميم الثقافة وتعليم الموسيقى وإقامة المحاضرات والندوات، إضافة إلى جمعية صليب إعانة الأرمن.
رئيس البلدية أكد أن الأرمن هم الذين اكتشفوا قلعتها التي ردمت بفعل العوامل الطبيعية ولم يكتشف عن قلعة عنجر اليوم إلا ما نسبته 30 % والجزء الأكبر منها ما زال غير مكتشف بسبب توقف أعمال الحفر والترميم.
وبسبب غياب فرص العمل أمام الشباب تعاني بلدة عنجر من تسرب في الأجيال العمرية الصغيرة والمتوسطة إلى خارج لبنان، بحثا عن عيش كريم، وهذا الأمر تسبب في تناقص عدد الأرمن في عنجر من 9 آلاف إلى 3 آلاف.
عنجر كما اكد رئيس بلديتها ستكون نموذجا للبلدات والمدن الراقية والمتحضرة واللبنانيين وكل العالم مدعوون لزيارتها لأنهم سيجدون فيها خير الضيافة والحفاوة والإستقبال.
تاريخها
الاشاعات المتفرقة التي كانت رائجة وتؤشر الى تخل فرنسي وشيك عن سنجق الاسكندرون لتركيا وتعززت عام 1936. ومع ان حادث الهجرة الجماعية للأرمن من كيليكيا كان ينذر بذلك قبل أقل من ثلاثة أشهر على جلاء الجنود الفرنسيين في 1939، فان المفوضية العليا قررت حيال تصميم أرمن جبل موسى وسائر الأرمن الى الرحيل أن ترتجل حلا سريعا.
أعرب الزعماء الدينيون لدى الطوائف الأرمنية الثلاث وأعضاء الاتحاد الوطني، بعدما حاولوا عبثا ثني الفرنسيين عن قرارهم "عن خيبتهم و ألمهم العميق" ازاء الوضع الجديد الى غابريال بيرو في رسالة موجهة من بيروت بتاريخ 30 حزيران 1939. واذ تبين لهم أن الجهود المبذولة في فرنسا لانقاذ لواء الاسكندرون لم تكلل بالنجاح، اعتبروا الأرمن بنوع خاص ضحايا هذه الكارثة، وعندما رأوا ان أمنيتهم بضم أرمن جبل موسى خصوصا الى كسب والبقاء تحت الانتداب الفرنسي لم تتحقق اعتبروا "أنهم يجدون أنفسهم مضطرين بالحاح الى مغادرة هذه المناطق التي سكنوها منذ قرون، وذلك في أقرب وقت ممكن، وحتى قبل انسحاب الجنود الفرنسيين". لهذا طالبوا بالاسراع في نقلهم والافضل اسكانهم "الى جانب اخوانهم في كسب و هو ما يعتبر أقل كلفة" أو في حال تعذر ذلك في لبنان، على أن يتم رحيلهم في جماعات متراصة كي "يتمكنوا من الحفاظ على أواصر القربة و على تقاليدهم و لغتهم". وطلبوا الى المفوض السامي، وقد منع غموض الوضع السياسي هؤلاء القرويين من زراعة حقولهم وحتى ثمار أتعابهم، أن يتحمل نفقات نقل واسكان الذين مكثوا في السنجق ويقدر عددهم بثلاثة عشر ألفا.
جوابا على مؤرخة في 6 أيار 1939، وموجهة من رئيس المكتب السياسي الى المفوض السامي، اقترح آنذاك دورافور وكيل أعمال السجل والصلاح العقاريين وبعد دراسة، أن يتم اسكان الارمن ومعظمهم مزارعون أو رعاة في جهات لبنان الأربع منطقة في جوار طرابلس وكذلك في منطقة البقاع الشمالي القريبة من الهرمل، وذكرت مصادر تاريخية عن امكانية اسكان عائلات أرمنية في قضاء بعلبك، في منطقة ترويها مياه بحيرة اليمونة وفي ضواحي شمسطار والحدث وبوداي. وفي منطقة لبنان الجنوبي عند قدمي جبل الشيخ وتحديدا في مناطق راشيا ومرجعيون حيث السكان قليلو الكثافة ويتعرضون الى نزوح الشباب الى المدن، وكذلك كان هناك خيار من اسكان عدد من الارمن في جبل لبنان.
بعد أن واصلت السلطات الانتدابية استقصاءاتها، وباشرت أخيرا مفاوضاتها مع رشدي بك توما، وهو ملاك تركي ورث عن درويش باشا، حاكم دمشق السابق عقارا مساحته 1540 هكتارا، منها 850 قابلة للري في البقاع على بعد 50 كيلومترا من بيروت في عنجر، وهي مكان معلوم على طريق بيروت - دمشق. قدرت قيمته بحوالي 8 ملايين فرنك، في حين صاحبه طالب ب 28 مليونا. ما استطاع بيرو أن يعرض، في بادىء الأمر سوى 5 ملايين وطلب من ماسيليي السفير في أنقرة أن يتدخل لدى سرادج أوغلو ليقنعه بالضغط على رشدي بك الذي كان يسعى آنذاك الى تفعيل الخدمات الدبلوماسية التركية، وحمله على الموافقة على البيع بالتعويض عليه عن الفرق بأراض هجرها الارمن في السنجق.
ازاء إلحاح الوضع وخطر اطالة المفاوضات، اعتبر بيرو في 4 آب 1939 أن الحيازة على هذه الملكية يتسم "بصفة منفعة من شأنه أن يبرر باجراء استثنائي". وتاليا رغب في أن يتمكن من اللجوء الى عملية استملاك، لا يقدم عليها الا كحل أخير يجري لصالح الدولة الفرنسية مما قد يساعد على تعجيل المفاوضات الجارية مع أصحاب العقار، لأن الأرمن هجروا من منازلهم في السنجق وباتوا في العراء على الشواطىء.
وقد تسارعت المفاوضات مع رشدي بك الذي وافق أخيرا على البيع ولكن بمبلغ 8 ملايين فرنك وبدأت بعدها رحلة نقل الأرمن الى عنجر التي لم تخل من المصاعب والمآسي. انتقلوا من جبل موسى واقاموا في مخيم الادجا (البسيط) في سوريا في منطقة اللاذقية حيث لاقوا استقبالا جيدا من اخوانهم العلويين وسمحوا لهم بقطع أشجار الصنوبر واستعمال أغصانها في بناء مخيمهم. وبعد مكوثهم في هذا المخيم لفترة وجيزة بدأت التحضيرات لنقلهم الى عنجر في منطقة زحلة حيث الاكثرية المسيحية تسكن المنطقة، وحيث التشابه الجغرافي بين عنجر وجبل موسى وهذه كانت شروط الأرمن.
الوحدة الادارية
نقل الأرمن من جبل موسى ومخيم البسيط الى عنجر انتهى بفضل الاجراءات التي اتخذها المندوب السامي المساعد في اللاذقية والمستشار الاداري في زحلة.
جرى استيراد كمية محددة من المشمع الياباني المعد لصنع الخيم معفاة من الرسوم الجمركية لحساب شركة جورج برداويل، و قد تنازل عنها للاتحاد الوطني الأرمني، وهكذا حل الأرمن في مخيم مؤقت تحت خيم رقيقة. وبدأ تشكيل لجان صحية لتأمين الخدمات الصحية للاجئين تحت اشراف الطبيب الجنرال مارتان. الى ذلك رسمت دائرة الأشغال العامة التابعة للمفوضية العليا الفرنسية تصميما للقرية المقبلة (وهو من عمل هاكوب كشيشيان)، فاذا بموقعها على المنحدرات الأخيرة لجبل عنجر يحمي اغنى الأراضي كما يضمن سلامتها من الأمراض.
بسبب كثرة المستنقعات في عنجر أصيب سكان المخيم بسلسلة من الأمراض المعدية "التيفوئيد" أو "المستوطنة" مالاريا والرمد وأنه سجلت في غضون شهرين 48 حالة وفاة، وقد كشف تحقيق طبي أن 90% كانوا قد تعرضوا لاجتياح حمى المستنقعات. اثر ذلك اتخذت إجراءات وقائية مشددة وكلف طبيب عسكري، وهو طبيب عسكري أرمني، وتؤازرهما ثلاث ممرضات فأجريت، 3500 عملية تلقيح ضد التيفوس بفضل مساهمة فرق الجامعة الأميركية الطوعية.
حسب معلومات تاريخية بلغ عدد الوفيات التي حصدتها الأمراض والأوبئة بسبب المستنقعات حوالي 300 أرمني وأرمنية.
© NNA 2011 All rights reserved