تحقيق كلودين نحاس
جزين مدينة تتكىء على منكب جبل نيحا وسط فوهة بركان خمد في الحقبة الجيولوجية الثالثة، تشرف من فوق جرف شاهق على بلدتي بكاسين المسورة بحرج صنوبرها الرائع
ووادي جزين حيث ينساب نبعها الغزير بعد أن يكون قد تساقط رذاذا من شلالها الذي يعلو 84 مترا فيتهادى متموجا راويا الوادي الخصيب.
سكانها يبلغ عددهم حوالى 16 ألف نسمة وعدد ناخبيها 8 آلاف نسمة. تمتد على مساحة 2421 هكتارا، تبعد 73 كلم عن مدينة بيروت وترتفع 950 مترا عن سطح البحر.
اسمها
يشتق اسم جزين من الجذر الفينيقي ( غازو ) وهو يعني كما في معظم اللغات السامية الكنز أو الخزنة ما يشير الى غنى هذه البلدة بالمعادن أو الى وجود معبد قديم كان يتضمن في بنيانه قاعة مخصصة لحفظ النذور والتقادم التي كان يقربها المؤمنون للآلهة عرفانا بجميلهم عن شفاء قد تم أو نذر قد تحقق، فتكدست هذه مع مرور الزمن لتصبح كنزا كبيرا أسبغ اسمه من باب تسمية الكل بالجزء على هذه البلدة التي يرجع تاريخها الى القرن الخامس عشر ق.م..
جزين بالسريانية وحسب الدكتور انيس فريحة تعني: الخزائن والمخازن وربما جزازي الغنم من فعل جز في اللغة العربية وهي القطع والقص. وقد ورد ذكر جزين في مراجع قديمة عدة منها: رحلات الادريسي ولوكاس، والليدي ستانهوب والأبوان غودار والأب لامنس اليسوعي.
أراضيها، عبر الزمن، كانت امتدادا طبيعيا ومخزنا لمدينة صيدون القديمة ومخبأ لكنوزها ومصدرا لأخشاب أثاث بيوتها وقصورها ومعابدها وسفن متينة اجتازت مضيق جبل طارق.
لعبت جزين دورا تجاريا لأنها شكلت الممر الطبيعي لقوافل التجار من صيدا باتجاه الشام مرورا بالبقاع وكانت عقدة المواصلات بين الشوف وسوق الخان في وادي التيم. ومما يؤكد على ذلك أنه اكتشف فيها بعض من التماثيل والمخابئ والنواويس وما تركه فيها الفينيقيون من الأسلحة والأدوات البدائية. كما يعزز هذا الاعتقاد أيضا أن أسماء بعض الأماكن والمواقع فيها ذات جذور كنعانية وآرامية وفي العهدين اليوناني والروماني كانت جزين مأهولة وشكلت باكرا حالة حضارية متقدمة، فأضحت مصيفا لفراعنة مصر منذ عهد كليوبترا الرابعة. وبهذا تكون جزين أقدم المصايف على الاطلاق وأهم فنادقها القديمة أوتيل مصر - أوتيل الأهرام.
تضاريسها
تضاريسها الجبلية تبدأ من الغرب وهي: عين الثغرة ( 1212 م )/ جبال طورا ( 1390 م ) جنوبا / تومات جزين ( 1647 م ) شرقا. أما شمالا فيظهر التكسر العمودي المميز لمدخل البلدة ومسقط شلالها.
وسط هذه المرتفعات تداخلت غابات الصنوبر والسنديان والملول حيث خلقت مع جبروت التضاريس جنات متناغمة متداخلة أغنتها خصبا وانتاجا وكرما. أما مناخها فبارد اجمالا وتتميز بفصولها المتمايزة الأربعة.
موقعها
تقع جزين في أول محافظة لبنان الجنوبي لجهة محافظة جبل لبنان، وبذلك فهي تربط الشوف واقليم الخروب بمحافظات الجنوب والنبطية والبقاع الغربي وتشكل همزة وصل بين الجنوب الساحلي والبقاع الغربي، فهي اذا عقدة مواصلات بين المحافظات الأربع.
ثروتها
تمتاز مدينة جزين وهي مركز القضاء بتربتها الخصبة الغنية بالمعادن والثروة الطبيعية خصوصا الحديد والفحم الحجري والحمر ويمكن للزائر أن يشاهد بأم العين على الطريق التي تصلها بحيطورة وجود طبقة من الشيست (shiste) الممزوج بالحمر والتي تتراوح سماكتها من أربعة الى خمسة أمتار مغطاة بقشرة بسيطة من التراب. الأمر الذي يسهل تعدينه دون كلفة تذكر.
يفيد العلامة اليسوعي الأب هنري لامنس في كتابه "تصريح الأبصار" في ما يحتوي لبنان من آثار - الجزء الثاني: "ان أهم مستودعات الفحم الخشبي المتحجر واقع جنوبي غربي بلدة حيطورة على مسافة عشرين دقيقة من قائمقامية جزين وصاحب امتياز المنجم سعادة المركيز موسى دي فريج، ويقدر احتياط الفحم فيه بملايين الأطنان ما يشكل ثروة كبيرة للبلاد يمكن استغلالها بكلفة ضئيلة.
وقد تضمنت مناجم جزين حيطورة على بعض العنبر الذي يتوالد من صمغ الصنوبر والسرو وأشباههما، فهذا العنبر أصفر كالشمس لامع ومكسره زجاجي. أكد هذا الأمر حديثا أستاذ علم الأحياء في الجامعة الأميركية الدكتور رئيف ملكي في أحد أبحاثه بعد أن عثر على أنه أقدم عنبر في العالم وأكثره نقاء وشفافية ويعود تاريخ تكوينه الى أكثر من 130 مليون سنة.
ارتبطت مدينة جزين ارتباطا وثيقا بالتاريخ اللبناني منذ بدايته حتى اليوم، فهي ما زالت مركزا للقضاء كما يشهد على ذلك بناء السرايا القديمة القصر البلدي اليوم الذي يحاكي بشموخه سرايا بعبدا قدما ونمطا، وترتفع فيها القصور البديعة بقرميدها وطرازها المعماري المحلي. وقد أنجبت رجالات لمعت في سماء الشغر والادب والدين والسياسة والفنون والبطولات.
تشتهر جزين بصناعة السكاكين المطعمة بالعظام والصدف والمعادن. وتمتاز بالمشروبات الروحية على اختلاف انواعها والمربيات والثمار المجففة، كما يصار حاليا الى تشجيع السكان على تأسيس المحترفات الصغيرة التي تتقن الحرف اليدوية كالمطرزات والملابس وغيرها. كل ذلك بهدف تشغيل أكبر عدد ممكن من اليد العاملة وايقاف نزوح السكان من الريف الى المدينة.
عروس الشلال
بيئيا وبيولوجيا، جزين ذات طبيعة جميلة اذ تتحول الاعالي الى مناطق صخرية تعطي البلدة اضافة الى جمال تكوينها ثروة صخرية ينتج عنها صناعة الصخر الجزيني وهو اشهر الصخور الوطنية المصنعة.
تقوم جزين على خزان مائي كبير يجعل منها منطقة خضراء غنية بشكل هائل بالمياه، فهي فضلا عن الآبار الجوفية الغنية التي تجمع في خزانات تروي القرى حتى صيدا، فانه يمكننا أن نعد على سطحها 24 نبعا أكبرها وأهمها نبع جزين الذي يؤمن مياه الشفة للأهالي، ثم تجري مياهه في نهر يخترق وسط البلدة فيروي 80% من الأراضي الواقعة تحته. وتقوم على ضفتيه المقاهي الشهيرة ثم يتساقط عند شاهق عامودي صخري يعلو 84 م مكونا الشلال المعروف محليا باسم الشالوف، وهو رمز مميز للمدينة ويعطيها شهرتها "كعروس للشلال".
الشالوف يعتبر خامس أعلى شلال في العالم والأعلى في لبنان والمنطقة، ارتفاعه 904 أمتار عن سطح البحر. يجذب اللبنانيين والسياح العرب والأجانب وخصوصا في فصل الصيف. ويعتبر باطن أرض مدينة جزين بأنه يشكل معبرا لأطول قنوات وأنابيب المياه في لبنان (16 كلم) الممدودة تحت الأرض بين معمل عبد العال في مركبا ومعمل الأولي لتوليد الكهرباء.
تراث
من آثارها، جزء من مدافن المرمغينة الفينيقية ويعني بالسريانية مرمى الأغنياء أي محل دفنهم وهي موجودة في محلة كروم الجبل في جزين وأخرى في محلة النبع نبع عزيبة وجسر الخلاص، اما مغارة فخر الدين المعني الثاني الكبير فتقع في وسط شاهق صخري محاطة بأشجار ونبات وهي بين شلالي جزين وعزيبة. ارتبط اسم هذه المغارة بالأمير لأنه لجأ اليها هاربا من القوات العثمانية بتهمة انفتاحه على الغرب وميوله الانمائية والاستقلالية فتعقبه جواسيس كجك باشا الذي أجبره على الاستسلام بعد أن أحرق تحت باب المغارة كميات كبيرة من شجر الوزال فقضى خنقا في شباط 1633.
ومن معالم جزين العمرانية الأثرية التي تجلب السياح: سيدة المعبور، القصر البلدي، المطاحن، الجسور، اليواخير، السوق القديم، قصر الدكتور فريد سرحال، المطاعم، المقاهي والفنادق.
اشتهرت جزين بنوعية حجرها الرخامي "filetto massa"، وتضم اليوم أكثر من عشر معامل لتصنيع الرخام وأعمال الديكور وتزيين المنازل، وعدد كبير من عائلاتها يعتمد على هذه الصناعة كمورد أساسي لعيشها.
اما صناعة السكاكين والخناجر والسيوف فهي حرفة لبنانية نادرة ومن مقومات السياحة والتراث ومقصد كبير للسياح. فقد تأسست سنة 1770 بصناعة السكاكين العادية المزخرفة ثم تطورت لتصبح حرفة فنية ذات جمال وشهرة عالمية ممهورة باسم جزين. تعتبر هذه الحرفة من أثمن الهدايا التي يقدمها ويعتمدها الرؤساء والملوك كهدايا في لبنان والخارج، اضافة الى اللبنانيين الذين يحملونها كهدية ثمينة الى ديار الاغتراب.
تمتاز ايضا بصناعة الشمع حيث يتم تحويل هذه المادة الى أشكال مميزة من أزهار ورسوم جميلة تبهر الناظر في المناسبات كافة.
السياحة
ولأن لجزين تاريخا عريقا في السياحة والاصطياف كان لا بد للمجلس البلدي الذي انتخب في أواخر 2001 أن يعمل بجد ودون كلل من أجل عودة جزين الى سابق عهدها وبالتالي استعادة دورها ومجدها السياحي والاصطيافي. فشكلت لجنة للمهرجانات من أعضاء المجلس البلدي عملت مع النوادي والجمعيات والمدارس على تأسيس مهرجان التراث الذي أطلق عام 2002 ليصبح تقليدا سنويا أخذ يتطور نحو الأفضل من عام الى عام. فهو مهرجان يتضمن معارض بيئية، ثقافية، حرفية، مؤونة جزينية، حديقة للرسامين يشارك فيها نخبة ممتازة من الفناننين اللبنانيين والعرب، اضافة الى سهرات فولكلورية وغنائية رفيعة جذبت الآلاف من اللبنانيين والسياح العرب والأجانب الذين توافدوا الى جزين لحضور هذا المهرجان.
وتتطلع اللجان المسؤولة اضافة الى بلدية جزين الى المستقبل القريب لتحقيق المزيد من النجاحات للمهرجانات وللوضع الاقتصادي خصوصا بعد تأهيل طريق صيدا - جزين وتأمين باصات لنقل الركاب بين صيدا وجزين على مدار الساعة.
مزارات وكنائس
وتضم جزين الكثير من المزارات والكنائس الأثرية، ومنها مزار سيدة المعبور الذي أنشئ سنة 1955، دير مار أنطونيوس البادواني الذي شيد سنة 1775، كنيسة مار مارون شيدت سنة 1732، كنيسة سيدة النبع للروم الكاثوليك شيدت سنة 1796، كنيسة مار يوسف انتهى تشييدها سنة 1865، دير راهبات القلبين الأقدسين سنة 1894، دير راهبات عبرين الذي اهتم بانشائه البطريرك الراحل بولس المعوشي
اقتصادها
تعتمد جزين في اقتصادها على عدة مقومات أبرزها السياحة كونها تضم عددا كبيرا من الفنادق والمطاعم وكونها تملك طبيعة خلابة.
وتشتهر بزراعة التفاح وهو من أجود الأنواع ويصدر الى كل أقطار العالم، كذلك العنب بأنواع عدة والذي يستخدم في صنع المشروبات الروحية اضافة الى الاجاص والتين والخرمى والاسفرجل والكستناء الذي استورد من تركيا.
رجالاتها
من رجالات جزين القدامى: البطريرك بولس المعوشي الذي انتخب عام 1955 وعين أول كاردينال ماروني من قبل البابا بولس السادس سنة 1965، سليمان مارون كنعان: عضو مجلس ادارة المتصرفية، جان عزيز : وزير ونائب وشاعر، أمين فارس رزق: لقب بشاعر الشلال، ساروفيم بارتي: أول صيدلي لبناني ينشئ مختبرا لصنع الأدوية، بدري سليم المعوشي : تولى رئاسة محكمة التمييز الأولى سنة 1950 وعين وزيرا للداخلية والدفاع سنة 1966، ابراهيم أسعد عازار: محام لامع عين نائبا عن جزين سنة 1937 ثم 1947، المطران سليمان الحجار: سيم مطرانا سنة 1998 على أبرشية مونريال في كندا للروم الكاثوليك، البروفسور فريد سرحال: أسس مستشفى سرحال في بيروت سنة 1952 عالج الفقراء دون مقابل وكان نائبا عن جزين 1972، شيد قصره في جزين 1967 الذي يشكل تحفة فنية نادرة ولا يزال قيد الانشاء، جوزف خليفة القطار: عالم ومخترع حصل على 300 شهادة في التخابر اللاسلكي تاركا أكثر من 64 اختراعا، أنطوان غطاس كرم: أديب وشاعر صدرت مؤلفاته عن دار النهار سنة 2005، يوسف سليمان كنعان: طبيب صنع الأدوية وعالج بها المرضى بأرخص الأثمان، مارون بك كنعان: أحد رجالات الاستقلال، رشاد عازار: نائبا 1950 ثم 1951.
في جزين سراي حكومي جديد دشن في العام 2000 ويضم مختلف الادارات الرسمية والعسكرية، كما تصم مستشفى جزين الحكومي الذي يؤمن الاستشفاء لأبناء منطقة جزين والشوف.
نفذت في عروس الشلال مشاريع مهمة بعد زوال الاحتلال الاسرائيلي، ومنها: محمية للأرز التي تضم 30 ألف شجرة أرز في تومات جزين زمكتبة عامة تضم 10 آلاف كتاب وقاعة للمعلوماتية، وتنظم فيها الندوات الثقافية والبيئية والطبية كما يتم احياء المناسبات الوطنية والدينية. اما اتحاد بلديات منطقة جزين، فقد نفذ مشاريع اهمها:
اطلاق حملة فرز النفايات في المدارس، تأهيل السوق التراثي في جزين المعروف باسم سوق السد والممول بهبة من الاتحاد الاوروبي وتأهيل شارع سعيد وهبي في جزين.
© NNA 2011 All rights reserved