فاديا دعبول
تكتسب بلدة انفة شهرتها بالنظر لموقعها الجغرافي كشبه جزيرة على شاطئ صخري عريق في التاريخ، شكل عبر العصور محطة استراتيجية لاستيطان الشعوب ونقطة جاذبة للغزاة والعابرين..تبعد أنفة عن مدينة طرابلس 15 كلم، وعن مدينة بيروت65كلم، وعن موقع البلمند خمسة كيلومترات.
عرفت أنفة جميع المراحل التاريخية التي تركت آثارها على التلال والشواطئ والكهوف والمعابد والدهاليزوالمعاصر والممرات والخنادق المحفورة كلها في الصخور والتي زادت أنفة تمايزا اضافة الى اهمية موقعها الجغرافي.كما ان الخنادق الثلاثة في وسط الموقع والتي استخدم الفينيقيون اكبرها لصناعة السفن ثم تحولت الى خطوط دفاعية فاصلة في عهد الصليبيين كانت مركزا صناعيا وتجاريا مهما.
تعد أنفة من اولى البلدات التي انتجت الملح وما تزال، فهي تشتهر بملاحاتها المنتشرة على طول شاطئها، واستثمارها لثروتها البحرية، ان من حيث استخراج ثمار البحر او اقامة المنتجعات السياحية الفخمة ، كما انها تتميز بزراعة الزيتون ومنتوجاته، وسوقها التجاري الذي بات مقصدا لكل متسوق من جميع ارجاء المنطقة.وفي أنفة ايضا شركات ومعامل ومعاصر للزيتون ومؤسسات تربوية واجتماعية فاعلة وناشطة.
اسماء انفة عبر التاريخ
في رسائل تل العمارنة الشهيرة التي تعود الى القرن الرابع عشر ق. م. كانت بلدة انفة تدعى “أمبي” Am-bi ثم تحولت الى أمبا Ampa حين ذكرت في النقوش الأشورية في عهد الملك أسرحدون في الألف الأول قبل الميلاد.
وفي العهد اليوناني الروماني ذكرت باسم “ترياريس” Triere أي السفينة ذات الصفوف الثلاثة من المجاذيف. وفي العهد البيزنطي ظلت ترياريس مذكورة على نطاق واسع حيث أضحت مركز أسقفية، وشارك أسقفها في المجمع الخلقيدوني المسكوني الرابع المنعقد سنة 451 م. ونالت المنطقة نصيبها من الزلزال الكبير الذي ضرب الساحل في منتصف القرن السادس الميلادي .
أما في القرن السابع الميلادي فقد افتتحها العرب وعرفت في مصادرهم باسم أنفه، حيث ذكرت في حديث نبوي شريف كونها حصنا منيعا في منطقة بحر الروم، وقد بنى أيضاً على أراضيها وفي بحرها قسم من أسطول معاوية الحربي.
احتلها الصليبيون مع بداية القرن الثاني عشر ودعوها “نفين” وكانت تقوم عليها آنذاك قلعة عظيمة يقال أنها كانت محصنة بتسعة أبراج عملاقة، وتعود الى العهد الفينيقي حين قطع اللسان الصخري الذي تتميز به أنفه، وفصل عن البر من خلال شق أخدودين عظيمين وصل عمقهما الى مستوى البحر. أما الهدف من شقهما فعزل القلعة العظيمة الكائنة على الرأس. وكانت ترتفع في وسط الأخدود الأول مسلّة صخرية تستعمل كمرتكز للجسر المتحرك الذي يصل القلعة بالبر.
عنـدما وصـل المماليـك الى أنفه أجـلى سلطـانهم قلاوون الصليـبيين عنـها في عام 1289 م، وقام بتدمير القلعة البحرية ورمى قسماً من حجارتها الضخمة في البحر. وأصبحت أنفـه في العهد المملوكي مركزاً لولايـة شمـلـت الكـورة وقسـم من جـبه بشري. كذلـك، بقيـت البلـدة مركـزاً إداريـاً “لناحـية أنفـه” في العـهد العثماني، وكانـت تـضم 13 قرية و14 مزرعة. أما في نهايـة عـهد المتصرفيـة فقد أضحـت المركـز الشـتوي لقضـاء الكـورة حيـث بنـيـت فيهـا السـراي.
وفي عهـد الإنتداب، وأثنـاء الحرب العالمية الثانية كانت أنفه مركزاً عسكرياً هاماً حيـث أنشئ فيها مطار حربي في سهل السودات.
مساحة انفة وعائلاتها
تبلغ مساحة انفة الاجمالية نحو خمسة ملايين متر مربع محاذية للبحر، ويقيم فيها نحو ستة آلاف مواطن لبناني من أنفه فيها، وهم من العائلات التالية:
مكاري، دعبول، أنجول، جريج، صليبا، عيسى، نعمه، الخوري، نقولا، عوده، عور، شخاشيري، سركيس، ساسين، عويجان، داغر، عساف، النمر، سابا، السوري، الضيعة، دمعه، الأرمني، فوز، فارس، إبراهيم، نخول، موسى، عوض، المسيح، طراف، علاوة، عثمان. وتجدر الاشارة ان نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري هو ابن البلدة وهناك العديد من الشخصيات الانفاوية التي تألقت وتميزت على صعيد لبنان والعالم في كافة المجالات وتركت بصمات مهمة لا تنتسى.
قلعة أنفه
استحوذ رأس أنفه الداخل في البحر بطول 400 م وعرض 100 م،على إهتمام جميع الشعوب التي مرت في البلدة. هذا الإهتمام يتجلى من خلال الآثار العديدة فيها: أعمال الفينيقيين المحفورة في الرأس الصخري، ومعاصر الخمور القديمة التي اشتهرت أنفه بجودتها، عدا الأقنية والأدراج والآبار والمدافن المحفورة في الصخور، والقطع الفخارية من مختلف العصور، وقطع الفسيفساء الملونة...
بموجب قرار صادر عام 1973، اعتبرت قلعة أنفه ضمن الأبنية الأثرية، وهي تتميز بالخندق المحفور بكامله في الصخر والذي يبلغ طوله نحو خمسين متراً وعرضه عشرين متراً وارتفاعه عشرين متراً، ويشكل نوعاً من "ترعة" تصل المياه بالمياه من وسط الرأس الحجري، والجدير ذكره أن الخندق بكامله نقش بالمطرقة والإزميل. وقد تعود أسباب إنشاء هذا الخندق الى أمرين: أولهما جعل المكان صالحاً لبناء السفن، والثاني إحاطة المياه بشكل كامل بالقلعة ما يجعلها نوعاً من جزيرة بحرية لا يمكن الوصول إليها، إلا عبر جسر متحرك ما زالت قاعدته قائمة في وسط الخندق، وقد بوشر العمل آنذاك بخندقين آخرين كخطين إضافيين للقلعة إلا أن حفرهما لم يكتمل.
معالم حفر إرتكاز أساسات أسوار القلعة واضحة في الأرض حتى اليوم، وبعض من أبراجها الإثني عشر على طول الشاطئ مع بقايا من أكبر أسوارها ما زال منتصباً عند نهاية الرأس.
ويضم الشاطئ الشمالي للرأس خمسة منحدرات صخرية لإنزال السفن؛ وقد جر الأقدمون مياه نبع الغير الى القلعة عبر شبكة من القساطل الفخارية المميزة التي وجدت تمديداتها عند حفر أساسات الكثير من البيوت الحديثة.
تعرضت القلعة بعد أن هدمها المماليك (1289) لكثير من التعديات عبر التاريخ، فقد استعملت كمصدر لحجارة البناء -خاصة بيوت ميناء طرابلس التي نقلت اليها بحراً- ولإنشاء الملاحات، كما عبث فيها الكثير من الباحثين عن الكنوز، الى إقامة الأبنية الحديثة والمشاريع التي طمست الكثير من المعالم الأثرية.وتدل بقايا الابنية واساساتها على طول الشاطئ على أن أنفة كانت محاطة باسوار مرتفعة ذات أبراج وحجارة ضخمة.
في بلدة أنفه ثلاث كنائس تقوم بمحاذاة الشاطئ وتخبر بما كان للبلدة من أهمية:
كنيسة سيدة الريح
كنيسة سيدة الريح بنيت في العهد البيزنطي على الشاطئ الشمالي للبلدة عند بداية رأس القلعة. ويقال أن المؤرخ العربي شمس الدين الدمشقي عناها بقوله: "وبها (أنفه) بيت يزعمون أنه أول بيت وضع باسم مريم في الشام". أي أنها أول كنيسة على اسم العذراء في بلاد الشام.
أصاب الكنيسة الكثير من الخراب، بيد أن داخلها يشكل تراثاً جليلاً لما تحويه من الرسوم أو الأيقونات الجدارية؛ وباستطاعة الباحث المدقق أن يلاحظ صورة تمثّل القديس جاورجيوس على حصانه، وجزءاً من أخرى كانت تمثل القديس ديمتريوس . وعند المدخل صورة عظيمة للسيد المسيح وصور بعض القديسين، وأخرى تمثل العذراء وهي تقوم بتهدئة عاصفة هوجاء. وقد أدخلت الكنيسة ضمن لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية بالقرار رقم 475 بتاريخ 21/10/1959.وهي تخضع اليوم لعملية ترميم واسعة.
كنيسة القديسة كاترينا
وفي وسط البلدة كنيسة أخرى بناها الصليبيون على اسم القديسة كاترينا تعود الى القرن الثاني عشر الميلادي، وتشبه من الناحية المعمارية كنيسة السيدة في دير البلمند. وتحمل واجهة الكنيسة الغربية أكبر نافذة مستديرة بين الكنائس الصليبية المعاصرة لها. وقد أدخلت ضمن لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية بالقرار رقم 505 بتاريخ 5/3/1937، وأجرت عليها مديرية الآثار ترميمات عدة.
كنيسة مار سمعان ومار مخائيل
وتطل على الساحل الغربي في وسط الحارة القديمة كنيسة مار سمعان ومار ميخائيل التي تعود للعصر البيزنطي. وتتألف من هيكلين مزدوجين في بناء واحد، وفيها بقايا جداريات ( Peintures Murales) ويحتفل في ساحتها بعيد مار سمعان العمودي في الأول من أيلول من كل عام. ويمتاز سقف الكنيسة بأنه يحتوي على جرار كانت تستعمل في البناء قديماً، للتخفيف من وطأة الصدى. وقد خضعت الكنيسة لترميمات عدة بهمة مجلس رعية أنفه، وبإشراف المديرية العامة للأثار، حيث كانت قد أدخلت ضمن لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية بالقرار رقم 475 بتاريخ 21/10/1959.
دير سيدة الناطور
دير سيدة الناطور شيده الرهبان السيسترسيان حوالى سنة 1115، اما اساساته فهي اقدم بكثير، وقد بني على أنقاض دير بيزنطي. وللدير موقع مميز اذ أنه بني عند رأس بحري يعرف ب "رأس الناطور"، وفي أسفله كهف تغمره مياه البحر يسمى "كهف الناطور" . ويحوي آثاراً وغرفاً محفورة في الصخر. وتتميز كنيسة الدير برسوم جدرانية جميلة من القرن الحادي عشر. وتوجد أمام الدير ناعورة رومانية قديمة لم يبق منها سوى ركيزة الدولاب المحفورة في الصخر.
تدور حوله اساطير عدة ومن الحكايات القديمـة التي تروى أن رجـلاً شريـراً عاش في تلك المنطقة، وفي أحد الأيام ظهرت له السيدة العذراء، فتـاب ونـدم على كل أفعاله، وللتكفـير عنها ربـط نفـسه بسلاسل حديدية في منزل قرب البحر، ثم رمى مفتاح السلاسل في البحر. وكان الناس يأتون إليه بدافع الشفقة فيطعمونه ويهتمون به. وبعد فترة من هذا العذاب يقال أن صياداً اصطاد سمكة ووجد في بطنها مفتاح السلاسل، فعلم الرجل أن هذه الرسالة من الله تعلمه أنه نال الغفران، وأن رحمة الله الكبيرة سامحته على أعماله الشريرة السابقة. وقد بني في مكان إقامة هذا الرجل دير سمي على اسمه كونه كان منتظراً لرحمة الله، دير سيدة الناطور كما يقال له بالعامية. وقد أصبحت هذه الحكاية من التراث الشعبي لبلدة أنفه.
دير مار يوحنا
دير مار يوحنا الأثري الذي بني على أنقاض كنيسة بيزنطية، تجاوره مدافن صخرية تعود الى القرون المسيحية الأولى.
كنيسة مار ادنا
تقع في منطقة الحريشة على هضبة مشرفة جنوب شرق الاتوستراد ، على حدود كروم الزيتون، تعود على الأرجح الى العهد البيزنطي، وتحيط بها آثاربقايا أبنية ومعاصر ومدافن وأجران وحجارة كبيرة منحوتة وصهاريج حجرية لجمع المياه وكسر فخار متفرقة..، تعرضت للتخريب والحفر والسرقة خاصة المعاصر والاعمدة والتيجان التي حفظ منها عمود مع قاعدة وتاج في ساحة دير مار يوحنا أنفة.
وهناك مزارات عديدة في انفة تحمل أسماء "مار قزماودميانوس" و "الأربعون شهيداً"، وأشهرها "مزار الشهدا" عند صخور الشاطىء حيث يغطس الأطفال المكبوسين في حوض صخري تملؤه مياه البحر، ليستعيدوا نموهم بشكل طبيعي.
تلال انفة
تشرف على أنفه مجموعة من التلال الصخرية أهمها تلة مار أنطونيوس وتلة مار جرجس وتلة مار عبدا، وهي غنية بالمدافن الصخرية التي تعود الى القرون المسيحية الأولى. وتعتـبر تلة مـار أنطونيـوس موقعـاً غنـياً بالآثار وتمـتاز بكونهـا موقـعاً طبيعياً جيداً من الناحية الجيومورفولوجية؛ وقد ثبـت أنها كانـت في العصور الجيـولوجية الماضـية شاطئـاً بحرياً حيـث وصـلت آثار مياه البحـر الى أسفل التـلة. وتزخـر التـلة بالمغـاور الطبيعية، مثل مغارة الشهدا ومغارة الشق ومغارة البزيزات والآثار الصوانية العائـدة للإنسان الأول، والمدافن المحفورة في الصخر من القرنين السابع والخامس قبل الميلاد. ويقع على التلة دير مار أنطونيوس الكبير الذي يضم آثار مدافن وفسيفساء من الفترة البيزنطية والقرن السابع.
أما على تلة الغير حيث يوجد نبع ماء، فتم الكشف عن قساطل ري تعود الى العهد الروماني كانت تجر المياه الى القلعة القديمة مروراً بالبلدة، كما تحوي التلة مدافن محفورة بالصخر تعود الى القرن السادس قبل الميلاد.
مراكز رسمية
وفي البلدة أيضاً منزل قديم يعود الى القرن الثامن عشر بني في الفترة العثمانية, وكان مقصداً للرسميين والوجهاء الذين كانوا يقصدون البلدة، ويسمى اليوم منزل الخوري جرجس، وقد تعاقبت على المنزل أربعة أجيال من الكهنة، وما زال قائماً حتى اليوم.
السراي القديم أصبح اليوم مركزاً للبريد ومدرسة للبنات، بعد أن كان في زمن المتصرفية مركزاً شتوياً لقائمقام قضاء الكورة. أما مدرسة المساواة الوطنية فيعود بناؤها الى العام 1908 وهي على الطراز اللبناني القديم وقد كانت مدرسة خاصة إلا أن أصحابها قدموها للدولة في العام 1950، وهي تعرف باسم مدرسة جبران مكاري.
ومن المواقع الجغرافية المهمة
تحت الريح، جون أنفة، مينا النهيرة ورأس الناطور.
تعبق انفة بالكثير من الذكريات التي تفوح منها رائحة التاريخ، فوجه أنفه الحضاري والثقافي والسياحي والاقتصادي والاجتماعي والبشري يرتسم لؤلؤة نادرة في مياه بحر طالما حمل الى انفه خير وجمال وثروات الطبيعة الخالدة.