تحقيق جمال الساحلي
في خاصرة أحد جبال السلسلة الغربية، تستريح مدينة الهرمل في أقصى البقاع الشمالي، مزنرة بالهضاب والوديان، وسط بساتين الجوز والتين والزيتون والكرمة والمشمش. ترتوي سهولها من جداول الينابيع الدفاقة، وتغتسل قدماها بمياه نهر العاصي، حيث تنتشر المتنزهات والمطاعم في أحضان الطبيعة الخلابة.
وتعود تسمية الهرمل الى هرم ايل )القاموع)، ويبلغ عدد سكانها 80 الفا.
يحدها شمالا سوريا، وجنوبا قضاء بعلبك، وشرقا مجرى نهر العاصي وقضاء بعلبك ، وغربا قضاء عكار وطرابلس. يراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 600 متر عند مجرى نهر العاصي و2100 متر في المناطق الجردية، ومعدل أمطارها السنوي 250 ملليمترا ، أما معدل الحرارة فهو من 5 درجات تحت الصفر في كانون الثاني الى 32 في شهر آب.
في التاريخ
سكن الإنسان القديم مدينة الهرمل لكثرة ينابيعها العذبة، والدلائل تشير الى ذلك، كالقبور الموجودة في المغاور حول حافة نهر العاصي، وهناك آثار موجودة حتى الآن في القاموع، كالسفح الشرقي من الهرمل المسمى دير مار مارون حاليا ، وقناة وقصر البناة لجر مياه العاصي الى مملكة تدمر. وغرب الهرمل في بريصا، عدد من الكنائس البيزنطية، وهناك أيضا صخرتا نبوخذ نصر الثاني. أما الحدث الثقافي الاهم فهو تأكيد الناس لولادة جبران خليل جبران في جرود الهرمل، أي في وداي الرطل حيث أمضى طفولته هناك.
وبالوصول الى هرم الملك ايل، يبلغ ارتفاعه نحو 26 مترا، أي 45 مدماكا من الحجر الصخري، وعرض الواجهة من الناحية السفلية للهرم 950 سنتيمترا،بحيث أن هذا القياس يتلاشى حتى أعلى الهرم. وينقسم الهرم الى ثلاثة اقسام ، القسم السفلي يتألف من 11مدماكا ويعلوه كورنيش بشكل خطوط أفقية متوازية الأضلاع تلتف حول الهرم، وبارزة نحو 30 سنتيمترا من الواجهة. ويحتوي هذا الجزء بجهاته الأربع على لوحات منقوشة وبارزة تمثل الصيد البري والغزلان التي تطاردها الكلاب، وصور لبعض الملوك التي كانت تهوى هذا النوع من الصيد. أما الجزء الثاني فيتألف من ثمانية مداميك، وتبرز من الواجهة أربعة أعمدة ملتصقة وبارزة نحو 15 سنتيمترا عن بطن الهرم. أما الجزء الأعلى من الهرم فتبدأ قاعدته بشكل نصف دائري وتلتف أفقيا على جوانب الهرم بشكل هندسي رائع ، ومنه تنطلق قاعدة الهرم النهائية بحيث تشبه رأس المسلة، مما يحمل على الاعتقاد أن الهرم متأثر بالحضارة الفرعونية. ومع أن التاريخ يؤكد مرور رعمسيس الثاني في إحدى حملاته من هذه المنطقة، لكن هذا لا يعني ان البناء فرعوني. وهذا النمط من البناء الروماني له طابع خاص ومميز بين الآثار الرومانية الأوروبية والآثار الرومانية الشرقية، وفي بعض الأحيان كانت تمتزج الحضارات في ما بينها من حيث التحالف الروماني الذي يمتد من مصر الى سوريا، من دون ان يضيع الرومان أحرفهم الأصلية التي حملوها معهم من روما حيث السياسة الموحدة التي كانت روما تفرضها على العالم، ويتولد هذا التوحيد من تأثرها بالحضارة اليونانية ، حيث تولدت في ما بعد الحضارة البيزنطية.
وكان الهدف من بناء هذا الهرم مراقبة المنطقة تحوطا للجيوش الغازية، واعتبر أيضا نقطة دليل للقوافل التجارية والعسكرية، التي كانت تصل من جبيل مرورا بقلعة فقرا وأفقا وقلعة بعلبك واللبوة ثم الهرمل وحمص ومملكة تدمر، وكانت تصدر من هذا الهرم إشارات ضوئية تصل مدينة بعلبك بمملكة تدمر لتعلن وصول الملوك والجيوش أو الغزاة.
ويلاحظ أن الواجهة الجنوبية للهرم تتجه مباشرة نحو مملكة بعلبك، والواجهة الشمالية نحو حمص ومملكة تدمر. أما الواجهة الغربية فتحوي سلسلة الجبال التي تطل على البحر المتوسط من أجل مراقبة الغزاة. وبالوصول الى الجهة الشرقية، تطل عليها سلسلة الجبال الشرقية حيث نجد في أسفل هذه السلسلة القنوات التي كانت تغذي مملكة تدمر بالمياه. أما السهل الذي يحيط بالهرم فكان يزرع بالقمح لتغذية الجيوش الرومانية. وسميت هذه المنطقة
بأهراءت روما، وكانت الألوان الذهبية تتلألأ في هذا السهل عند يباس الحصاد في شهر حزيران ، وكان السهل يعج بالحيوانات وخصوصا الغزلان، وهذا ما تؤكده رسوم الصيد الموجودة على واجهات الهرم الأربع.
ويتحدث أحد المراجع الإيطالية عن تاريخ بناء هذا الهرم وهدفه، ويقول انه بات بمثابة معبد دفن فيه أحد الملوك في أواخر عهد الإمبراطورية الرومانية، وتم ردمه حيث يقع المدفن في الأسفل .وتقول بعض الروايات إن هذا الهرم هدم جزء منه وسلب ما في داخله، ثم أعيد ترميمه ، وهذا يلاحظ من أشكال الحجارة الجديدة التي رمم بها. فليس هناك أي اعتقاد أن هذا الهرم هدم بفعل العوامل الطبيعية، أي الزلازل، لأن بناءه لا يهدم بسهولة.
قصر البناة المسمى دير مار مارون
يقع قصر البناة على الضفة الشرقية من نهر العاصي، وهو محاذ لنبع عين الزرقاء. وكلمة قصر البناة مترجمة من الرومانية، وتنسب كلمة البناة إلى المهندسين والبنائين الذين اتخذوا من هذا المكان مقرا لهم عندما قاموا بحفر القنوات لمملكة تدمر، وبنوا قاموع الهرمل، وما يؤكد ذلك هو حجارة المغارة التي هي من حجارة قاموع الهرمل نفسها. وهذا النسق الهندسي الذي هو بشكل دفاعي كان الرومان يستعملونه في منطقة الشرق الأوسط، وهو مميز عن الفن الروماني الأوروبي، حيث نشاهد النوافذ المشطوفة بشكل زاوية وفتحاتها الصغيرة من الخارج تتسع باتجاه الداخل من بحيث لا تسمح بدخول السهام والنبال، وتسمح بالمراقبة والتحرك في الدفاع من الداخل نحو الخارج. والمعروف أن الرومان في تلك الحقبة لم يستعملوا الخيام للمكوث، لهذا لجأوا إلى بناء هذه القلعة ليستريحوا فيها بعد انتهاء العمل. بنيت هذه القلعة نحو سنة 200 قبل الميلاد، و سنة 425 كافأ الملك مورقيان رهبان مار مارون لمقاومتهم اليعاقبة، فجرى توسيعه وبناء عدد كبير من الصوامع، وأصبح دير للصلاة والعبادة. ولقد حفر الرهبان بئرا في داخله تصل الى نهر العاصي ليتسنى لهم الحصول على المياه دون الخروج من الدير مخافة ملاحقة الرهبان.
وفي هذا الموقع المقدس استشهد 350 راهبا ، لأنهم رفضوا الخضوع لساويروس بطريرك اليعاقبة .ففي عام 517 ، قتل اتباع القديس مارون ، وهم سائرون من مغارة الراهب الى كنيسة القديس سمعان العمودي في جبل بركات شمال غرب حلب . يذكر أن الكنيستين الشرقية والغربية تحتفلان في 31 تموز بذكرى استشهاد 350 راهبا قتلوا عام517 في.
قناة زنوبيا
في باطن سهل مدينة الهرمل يكمن سر هندسي عجيب هو القنوات التي أمرت ملكة تدمر زنوبيا بإنشائها لجر مياه نهر العاصي إلى تدمر، لكونها مياها نقية وعذبة . وكانت القناة الأولى ممتدة من جانب جسر العاصي الحالي . أما الثانية فكانت ممتدة من نبع اللبوة، والقناتان تلتقيان في قناة واحدة داخل الأراضي السورية، بحيث إذا قطعت إحدى القناتين تبقى واحدة تغذي مملكة تدمر. ويعود تاريخ حفر هذه القنوات الى نحو 200سنة قبل الميلاد . ويبلغ طول هذه القنوات حوالى 90 كيلومترا ، وهي على شكل آبار محفورة في الصخر ومتصلة في ما بينها تحت أعماق الأرض بنفق ضخم جدا، وبشكل سلسلة. ويصل عمق البئر إلى 35 مترا وعرضها الى متر واحد وطولها الى مترين. ويستلزم الحديث عن هذا العمل الهندسي بشكل أوسع مئات الصفحات، لذا نوجز في ما يأتي الأهداف التي كانت ترمي من ورائها مملكة تدمر الى جر هذه المياه:
أولا: نهر العاصي يمر من المناطق السورية ، وجر هذه المياه أسهل بكثير من جرها من سهل الهرمل، وكان منسوب نهر العاصي أكبر وأقوى بكثير مما هو. السيول تجرف معها الأتربة إلى وادي العاصي فتتحول المياه إلى وحول وتصبح غير صالحة للشرب.
ثانيا: كانت المنطقة تعج بالحيوانات وخصوصا الغزلان، وكانت هذه الحيوانات تشرب وتغتسل من هذا النهر، فتفقد المياه نقاوتها.
ثالثا: كانت مملكة تدمر تخاف من تسمم المياه. وإن مستوى سطح الهرمل أعلى من مستوى سطح تدمر، وقد ساعد ذلك على تدفق المياه بقوة نحو تدمر. أما الأدوات التي استطاعوا أن يحفروا بها هذه القنوات، فيعتقد أنهم استعملوا بعض السوائل التي كانت تفتت الصخر.
آثار بريصا
في مدخل بلدة بريصا الجردية من الناحية الشرقية آثار كنيسة بيزنطية كبيرة، وتبلغ مساحة هذه الكنيسة 200 م 2 وتتألف من حجرات ومداخل تؤدي الى الحجرة النصف دائرية حيث المذبح. اما من الناحية الغربية فهناك معبدان بيزنطيان، الاول لا تتعدى مساحته 32 م 2 مؤلف من حجرتين ، الحجرة الاولى عند المدخل وهي بشكل نصف دائري، والثانية بشكل مستطيل.
صخرتا نبوخذ نصر الثاني
والآثار التي تركها نبوخذ نصر الثاني في جرود الهرمل هي عبارة عن صخرتين على جانبي الطريق ، الاولى من الجهة الغربية للطريق ، حملت نقوشا تمثل الكتابة المسمارية، وثمة نقوش لشخصين واقفين ، الاول على الطرف الشمالي من الصخرة، والثاني يدير له ظهره. ويقول بعض المؤرخين إن هذه الكتابة المسمارية ترجمت، وتبين أن نبوخذ نصر قد كتب أهداف حملته على هذه الصخرة و أمر جيشه بشق هذا الطريق وصولا الى الساحل، فوصل مع حملته الى اورشليم مرورا بنهر الكلب حيث ترك بعض النقوش المسمارية هناك أيضا. أما الصخرة المقابلة في الجهة الشرقية فنقش علها ايضا بالكتابة المسمارية، وثمة نقوش لشخص يرتدي خوذة حربية وينظر إلى الأعلى حيث توجد شجرة بدون أوراق، وتم نقش هذه الصخرة عند عودة نبوخذ نصر الثاني من حملته الى بريصا، و الكلمات المنقوشة تؤكد تكريم الجنود الذين سقطوا في الحملة ، وقد دفن بعضهم في عدد من المغاور المجاورة للصخرتين في أعلى الجبل. وفي هذه النقوش أيضا ،وصف إعجابه بالمنطقة ، وقال انه مكث فيها ستة أشهر قبل أن يعود الى بابل من حيث أتى ، ومن هذا الطريق الذي شقه نبوخذ نصر مر الموارنة الهاربون من بطش اليعاقبة القادمين من سوريا ووصلوا الى بشري وكسروان ، ومنهم من مكث في تلك المنطقة .