لمحة تاريخية
بداية لا بد من الإشارة الى أن الفنيقيين (أهالي صور وصيدا وأرواد) قد أسسوا مدينة طرابلس حوالي القرن التاسع قبل الميلاد وأطلقوا عليها إسم "أثر" ,atharوهكذا أصبحت المدينة المستحدثة التي أقيمت عند شاطىء البحر عاصمة للإتحاد الفينيقي وبرع أهلها في صناعة السفن مما أتاح لهم التفوق في سرعة الحركة البحرية والتقدم التجاري في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط .
وسيطر اليونانيون على المدينة في القرن الرابع قبل الميلاد وأطلقوا عليها إسم "تريبوليس" أي المدينة المثلثة، ثم دخل اليها الرومان بعد ما قتلوا حاكمها اليوناني الذي اعلن العصيان على الرومان .
وفي القرن السابع الميلادي دخل اليها العرب فعربوا الإسم إلى "أ طرابلس بإضافة الهمزة في أولها تمييزا لها عن طرابلس الغرب ، ثم حذفت الهمزة وأصبحت "طرابلس". وأصبحت المدينة في عصر بني أميّة قاعدة بحرية ودارا لصناعة السفن بتشجيع من الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان ، وظلت المدينة إلى وقت طويل أحد الثغور الحصينة التي إهتم بها خلفاء بني أميّة .
وفي العام 750 م وقعت طرابلس تحت حكم الدولة العباسية ، ثم الدولة الفاطمية، وإستقلت على يد بني عمّار في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي حيث شهدت أزهى عصورها الإقتصادية والعلمية وعرفت بإسم" دار العلم".
وفي مطلع القرن الثاني عشر ميلاديا سقطت المدينة في أيدي الفرنجة وتعرضت المدينة البحرية لزلزالين هائلين وأعيد بناؤها من جديد وأصبحت مركزا أسقفيا لاتينيا ، وفي تلك الفترة عمد الصليبيون – الفرنجة إلى بناء قلعة سانجيل على تلة الحجاج وتبعد مسافة 3كلم عن الشاطىء، وحصنوا المدينة البحرية فأقاموا سورا حولها ، كانت بقايا منه لا تزال موجودة إلى أمد قريب قبيل إنشاء الكورنيش البحري في أواخر القرن المنصرم.
وإستمر حكم الصليبيين 180 عاما إلى حين اسولى عليها المماليك في العام 1289 الذين هدموا المدينة القديمة عند البحر وشيدوا طرابلس المستحدثة عند أقدام قلعة سانجيل التي أعاد المماليك بناءها بعد ما تهدمت أجزاء منها خلال حصارهم للمدينة .
وبلغت طرابلس خلال العهد المملوكي قمة الإزدهار العمراني والإقتصادي ، فإتسعت وإزدهرت ونمت حتى العام 1516 حين إنتصرت الدولة العثمانية على المماليك وبقيت مقرا ل"لواء" متسع الأطراف حتى العام 1920 مع إعلان دولة لبنان الكبير .
الإرث الحضاري
حين إحتل المماليك بقيادة السلطان المنصور قلاوون طرابلس عمدوا إلى التخطيط لإقامة مدينة متكاملة زاخرة بالعمران على مثال عاصمتهم القاهرة، فإستخدموا حجارة المدينة القديمة المهدمة لبناء وتعمير منشآت المدينة الجديدة، وأولى الخطوات التي قاموا بها تضمنت بناء أقسام جديدة في القلعة على تلة الحجاج ، وبنوا الجامع المنصوري الكبير تيمنا بإسم القائد الفاتح وإتخذوا منه نقطة إنطلاق لرسم المدينة فأقاموا سوقا شبه مستقيم يخترق المدينة من جنوبها إلى شمالها يعج بالبضائع والحرف التي تجمعت كل منها في حارة أو سوق من دون أن تختلط أو تمتزج مع بعضها البعض وإعتنوا بالصحة والنظافة، بحيث لا تتجاور مهنة الحدادة مع ا لقصاّبين أو مهنة العطارة مع النحاسين ، أو الفحامين مع باعة الأقمشة والأنسجة إلى غير ذلك... فكان لكل حرفة سوقها الخاص ، وتوزعت المساكن في الأحياء المجاورة لهذا السوق الرئيس ودائما إنطلاقا من الجامع الكبير، وإرتفعت الأبنية إلى طابقي
ولشدة حرص المماليك على أمن المدينة أقاموا سبع بوابات كبيرة وضخمة من الخشب الصلب والحديد المصبوب تقفل ليلا وتفتح عند الفجر .
وفي داخل المدينة تعددت المنشآت المختلفة من المساجد والمدارس الدينية والتكايا والحمامات والخانات وأسبلة المياه ، وأقيمت أسواق طرابلس الداخلية متعرجة وضيقة لتوفير أكبر قدر ممكن من الحماية وليسهل الدفاع عن الحارات الشعبية في حال إقتحامها من قبل الأعداء ، ويمكن ملاحظة أمر هام في هذه الحارات السكنية هو عدم وجود بابين متقابلين لمسكنين ،حتى لا ينكشف مدخل المسكن الأول على سكان المسكن الثاني.
بين القديم والحديث
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن المنصرم إستفاد الطرابلسيون من الإصلاحات الدستورية العثمانية فخرجوا من نطاق المدينة القديمة للإقامة في جوار تل الرمل الكائن خارج بوابات المدينة لجهة الغرب، وفي تلك الساحة التي عرفت فيما بعد بساحة التل أنشأ العثمانيون السراي الحكومي التي بقيت صامدة زهاء خمسين عاما ليتم إزالتها في وقت لاحق خلال الستينات من القرن العشرين . كما أقيمت ساعة التل في ذكرى تولي عبد الحميد الثاني سدة الخلافة في الآستانة ، وترافق ذلك مع اقامة مركز للترامواي الذي كانت تجر عرباته البغال ويسير على سكة حديد ويؤمن المواصلات في إتجاه الميناء ، وشقت الطرقات وتم تعبيدها . كل ذلك دفع ببعض المتمولين من أبناء المدينة القديمة الى الإستثمار في المنطقة الحديثة فشيدوا اللأبنية الفخمة، ومعظمها على الطراز العثماني أو الإيطالي ، وأقيمت المصارف والفنادق والمقاهي، وكذلك مقرات بعض القنصليات الأجنبية والحالة الإزدهار والنعيم هذه لم تدم طويلا مع إندلاع الحرب الكونية الأولى .
... الكارثة
ولكن الطامة الكبرى وقعت في أواخر العام 1955 والتي عرفت بطوفة نهر أبي علي . في ذلك العام ، وفي تلك الليلة المشؤومة هطلت الأمطار بكثافة وسدت مجرى النهر الذي يخترق المدينة ويقسمها إلى قسمين ، وإحتقنت المياه على مقربة من القلعة التاريخية وتفجرت سيلا دافقا في الشوارع والأحياء والحارات الشعبية وصولا إلى أعتاب المدينة الجديدة فهدمت الجسور وإقتلعت العديد من المباني القديمة وأودت بحياة العشرات .
وبدلا من أن تلجأ السلطات إلى تدابير مدروسة عمدت إلى تهديم مساحات كبيرة من المباني المطلة على النهر بغية توسيع مجراه وشقت طريقا يخترق المدينة القديمة فأزيلت إلى غير رجعة أسواق بكاملها وإختفت حرف تقليدية ويدوية وإندثرت معالم أثرية وحضارية لا يمكن تعويضها .
تحقيق – صفوح منجّد
مكتب الوكالة الوطنية للإعلام – طرابلس