من عار ونقمة الى واقع ونعمة
طفل "الشفة الأرنبية" كسر قيود المعتقدات الموروثة وتحرر

تحقيق سلمى ابوعساف 
 
وطنية - في القارة الشابة (افريقيا)، كما في القارة العجوز (اوروبا): نبذ، عزل، تهكم وملاحقة غالبا ما تستتبع بالقتل. هكذا كان مصير البعض غير المحظوظ من حاملي "الشفة الأرنبية" منذ ايام الرومان والإسبارط وصولا الى ايامنا هذه.
 
الشفة الأرنبية Bec de Lievre، هو تشوه خلقي يصيب الجنين في الاسبوع الرابع من الحمل. عرف بهذه التسمية بسبب الشق الوسطي الذي يقسم الشفة العليا ليصل الى أسفل الأنف تماما كشفة الأرنب وهي حال شائعة عند الإناث، وقد يمتد احيانا الى الحنك ويسمى عندها بالشق الحنكي Fente Palatine وهو اكثر شيوعا عند الذكور.
 
حتى اليوم لم تحدد الأسباب المباشرة لهذا التشوه الخلقي، الا ان عددا من الدراسات العينية والإحصاءات خلصت الى نتائج تفيد بأن عدم اكتمال أنسجة هذه المنطقة من الوجه عند الجنين، يعود الى عوامل جينية ووراثية وبيئية. فإصابة احد الوالدين او الأجداد بهذا الأمر يرفع كثيرا من إمكان إصابة الجنين،  كما ان الأم المدخنة او التي تحتسي الكحول وتتعرض لمواد كميائية سامة (ادوات التنظيف، وقسم من مستحضرات التجميل)، او تعاني نقصا في الفيتامين "ب" وحمض الفوليك، ومن زيادة في الوزن او من مرض السكري او من التقدم في العمر او الزواج في سن مبكرة، تكون نسبة انجابها لطفل يحمل الشفة الأرنبية مرتفعة جدا.
 
بصمة ملاك أم لعنة شيطان؟
تنوعت الحكايات والأساطير التي تحدثت عن المصابين بهذا الخلل الجيني وعلاقتهم بمجتمعاتهم. فبعض الحضارات اعتبرته لعنة شيطانية كالرومان والإسبارط الذين رأوا ان هذه الحالات تدل على ان روحا شيطانية  تسكن المصابين، فأمروا بنبذهم وقتلهم.
 
في اوروبا، في القرن الثاني عشر، لم يسلم هؤلاء ايضا من اساليب التنكيل والقتل. فمن ضمن الحملة التي شنت على السحرة بعد ان تنامى تأثيرهم ووصفت ممارساتهم بالشيطانية، وبسبب رمزية علاقتهم بالأرنب، كان القرار القاضي بالتخلص من كل من يحمل الشفة الأرنبية ومن امه باعتبار انه ثمرة علاقة جمعت الام بالشيطان.
 
استمرت ممارسات العنف والعزل والإجهاز وفق المعتقد الموروث، الى ان اعلن الطبيب الجراح في علم التشريح الإيطالي girolamo fabrizi  (1619-1537) أن هذه الإصابة ناتجة عن خلل في التكون الجنيني. لتنتهي مع هذا الإعلان العلمي مرحلة الذعر والخوف والإبادة التي رافقت من حمل هذا التشوه الخلقي وذويهم، وتبدأ مسيرة التأقلم والعلاج والعيش بسلام. 
 
اما في القارة الإفريقية، وفي عدد غير قليل من دولها، كبوركينا فاسو وغينيا وغيرها، فلا يزال سكانها حتى اليوم يؤمنون بأن هذا التشوه الخلقي هو لعنة يجب التخلص منها، فيعمدون الى نبذ المصاب وعزله واحيانا كثيرة التخلص منه.
 
الا ان أسطورة لطيفة تجد لها مكانا في تاريخ هذه المعتقدات الظالمة تقول إن الجنين منذ لحظة تكونه في احشاء امه، ولكونه روحا طاهرة، منح نعمة مميزة مكنته من معرفة اسرار الخلق. فيكون عالما بالحياة السابقة والحياة المقبلة بتفاصيلهما، كما انه يعرف القرارات المستقبلية ونتائجها. الا انه وفي مرحلة نموه،  يأتي الملاك ويضع سبابته على فمه طالبا منه ان ينسى كل ما يعرفه والا يقول اي شيء. فتكون احيانا هذه البصمة قوية فيظهر الشق في الشفة العليا ويسمى ب "بصمة الملاك".
 
دور الأم الجوهري
وفي هذا السياق، اوضح الاختصاصي في الجراحة التجميلية والترميمية، الدكتور شادي المر ان "دور الأم ووعيها يؤثران بشكل عام على سلامة تكون الجنين منذ اليوم الأول للحمل وقبله في اغلب الأحيان".
 
ويلفت الى ان "الدراسات والأبحاث اظهرت ان معظم الامهات اللواتي يعانين من نقص في الفيتامين B12 و B6 وحمض الفوليك سواء قبل الولادة او في خلالها، هن الأكثر عرضة لإنجاب اطفال يحملون هذا التشوه. لذلك تشهد الهند نسبة ملفتة من ولادات اطفال يحملون هذا التشوه وذلك بسبب سوء تغذية الأم قبل وفي مرحلة الحمل. أضف الى هذين العاملين عوامل أخرى منها العامل الوراثي، فإصابة احد الوالدين او الأجداد ترفع كثيرا من نسبة اصابة الجنين. من هنا التشديد على دور الأم الأساسي والجوهري، فوعيها واستعدادها للحمل امران مفصليان، لذلك عليها ان تخضع لفحوص طبية قبل الحمل للتأكد من سلامة صحتها الجسدية وعدم وجود اي نقص في الفيتامينات اللازمة او في حمض الفوليك.  كذلك عليها الإقلاع عن التدخين والتزام نمط عيش صحي وسليم قبل الحمل وفي خلاله. فالكحول ممنوعة كذلك استخدام المواد الكميائية السامة، وتناول انواع معينة من الأدوية كأدوية الصرع وغيرها، بالاضافة الى الزيادة في الوزن، والتنبه في حال اصابتها بداء السكري، او الحمل في سن مبكرة او في عمر متقدم، وايضا اصابتها بالحصبة الألمانية، هذه كلها عوامل قد تؤثر على نمو الجنين. من هنا إلزامية اتباعها نظام تغذية غنيا بالخضار والفاكهة وفقيرا باللحوم، فحمض الفوليك متوفر في الخضار الخضراء والسوداء، وحبوب الفاصوليا والفستق وبذور دوار الشمس، والفاكهة الطازجة والعصير الطازج، والحبوب الكاملة والكبد".
 
وعن إمكان اكتشاف هذا الخلل قبل الولادة  أكد المر انه "امر ممكن وهو يتم من خلال تقنية الموجات غير الصوتية، وهذا لا يساعد على ترميم الخلل داخل رحم الأم وانما يتيح للاهل الاستعداد للتعامل مع هذه الحال بعد الولادة".
 
توقيت التدخل الجراحي
في العام 390 (ق. م.) اجرى طبيب صيني اول عملية جراحية لترميم هذا التشوه لشاب بالغ من العمر 18 عاما. وفي بلاد الأندلس اشتهر الطبيب ابو القاسم الزهراوي بتقنيته الخاصة للمعالجة في هذا الإطار. و من ثم تطورت آلية وتقنية هذا التدخل الجراحي عبر التاريخ  بدءا من استخدام المشرط الى استعمال المكواة ومن ثم الخيط والإبرة وصولا الى عمليات الترميم الكاملة في ايامنا هذه.
 
وفي هذا السياق يؤكد الدكتور المر ان " نسبة هذا الخلل الجيني في لبنان مقبولة جدا. فدرجة الوعي في المجنمع اللبناني لافتة. الا ان انعكاساته على صحة المصاب النفسية والجسدية سلبية بامتياز. الأمر مرتبط ايضا بنوع الإصابة التي تتمثل اما بشق جانبي او بشقين متوازيين للشفة او بتمدد الشق الى داخل الحنك العلوي ايضا. والنتيجة معاناة المصاب التي تترجم بلجوئه الى العزلة واصابته بالاكتئاب واحيانا تعرضه الى شلل دماغي او داءالصرع والم في العضلات والعظام ناهيك عن الصعوبة في التغذية فالطغل لا يمكنه الرضاعة، اضافة الى تعرض السمع لخلل يعيق عملية النطق وتعقيدات في نمو الفك والأسنان، وفي بعض الحالات المعقدة جدا وهي نادرة قد لا يسلم الطفل".
 
وتابع المر:" لذلك يجب إجراء عملية ترميم الشفة بين عمر الثلاثة اشهر والسنة(3-12 شهرا) كحد اقصى. وتستتبع هذه العملية بعملية تجميل او اكثر بحسب نوع الإصابة، عند بلوغ الطفل سن المراهقة. اما مقولة ان هذا الشق يلتئم مع مرور السنوات فخاطئة جدا. اليوم، مع التطور الذي شهده القطاع الطبي باتت العملية الجراحية هي المنقذ الوحيد للتخلص نهائيا من هذا التشوه الخلقي واستعادة الحياة بشكل طبيعي لأن نجاحها مضمون. وعلى سبيل المثال هناك الممثل جواكان فينيكس الذي خضع لهذه العملية".
 
نهاية المعاناة
وفي عيادته حيث صور بعض اللواتي والذين خضعوا لعمليات التجميل والترميم بهدف تحسين الشكل او تصويب خلل ما، ترى النصيب الأكبر لصور جرحى انفجار مرفأ بيروت ولاطفال الشفة الأرنبية قبل وبعد خضوعهم للجراحة الترميمية والتجميلية. اما اللافت فهو ان المر يذكرهم بالأسماء ويعرض بحماسة لحالتهم قبل وبعد وللنتائج الإيجابية للجراحة، ويختم قائلا: "ان اساعد طفلا او اي شخص على التخلص من معاناة لا ذنب له فيها، امر يمدني بشعور لا يمكنني وصفه. انه مزيج من الفرح والسعادة والامتنان والرضى".
 
يبقى الوعي عاملا أساسيا للحد من ولادات جديدة لأطفال "الشفة الأرنبية" والتوعية ضرورة موجبة للتعامل مع هذه الحال. وهنا ينتفي وجود أي لعنة او اي تدخل شيطاني، لتبقى الوقاية سيدة الموقف.

                   ================ ج.س

تابعوا أخبار الوكالة الوطنية للاعلام عبر أثير إذاعة لبنان على الموجات 98.5 و98.1 و96.2 FM

  • خدمات الوكالة
  • خدمة الرسائل
  • تطبيق الوكالة الالكتروني
  • موقع متجاوب